باقة من قمح وكسرة من ورد
باقة من قمح وكسرة من ورد…الذين يقدمون أنفسهم كواقعيين يبدؤون حديثهم بالتهجم على الرومانسية والرومانسيين، وكأنّ الأصل في نظرهم أن تكون واقعيا، والشاذ أن تصنف كرومانسي، أي في خانة المريض الذي ينبغي معالجته، وهم في ذلك يحشدون شتى الأقوال المأثورة للتدليل على صحة رأيهم، وحتى تلك التي قالها منظرو الرومانسية ومؤسسوها، كاستشهادهم بالكاتب والفيلسوف الألماني غوته في قوله بأن الرومانسية ” مرض و ضلالة مهلكة “، كما عرفها ووتر هاوس بأنها ” جهد للهروب من الواقع ” ولعلّ أخطرها هو عبارة أحد المفكرين الألمان” الرومانسية طغيان الفن على الحياة “.
أصحاب هذا المبدأ يرون أنّ الواقع مقياس كل شيئ، منه وإليه يعود الإنسان في مسيرته الحياتية والوجودية، وما عداه ضلال وتضليل للذات والآخر.
كل الأفكار الخالدة، هي تلك التي تنطلق من الواقع وتعود إليه، أمّا الهروب نحو الرومانسية، وإن كانت ذات نزعة ثورية، فضرب من العجز والتخفّي، وشكل من أشكال الكذب على الواقع بدل السعي لتغييره أو حتى الارتقاء به.
ليس من الواقعية أن نصنف الواقعيين في خانة واحدة، فالخلفيات الاجتماعية والتربوية والنفسية والأيديولوجية، لها أفعالها وتأثيراتها في قراءة الواقع وكيفية اللتعامل معه، حتى أنّ بعض ذوي الفكر المتشدّد يعادون الرومانسية من جهة كونها نزوعا نحو تمجيد الفردانية وتمردا على الواقع ونصوصه التشريعية وفق منظورهم الجهادي، أمّا اليساريون فيقرؤون الواقعية ويمجدونها من منظور جدلي، مستندين إلى مبدأ الصراع الطبقي وحتمية انتصار الفئات الكادحة التي ستؤسس دولتها وفق مصالح الطبقة العريضة وبناها الفوقية، دون أن يغفلوا عن انتقاد رفاقهم الحالمين ويتهمونهم بالرومانسية الثورية، كما يعتبر الكثير منهم العلاقات العاطفية تمييعا لاستحقاقات الواقع وقفزا على سلم الأولويات.
يقول كريم (محام 48عاما): عشت مراهقتي رومانسيا حالما، يعتقد أن الحياة في مكان آخر، حتى كدت أخسر دراستي وأضيع حياتي، ثم عشت صدمة عاطفية جعلتني أصحو من غفوتي ولا أتعامل إلاّمع الواقع، وبفضل ذلك حققت ما أنا عليه الآن.
أمّا(ح 50عاما) وهو كاتب، فإنه يتذكر من المرحلة الرومانسية التي أقلع عنها كما يقول، هذه الحادثة التي يرويها بشيء من السخرية: “في بداية سنة 1984,وبعد سهرات رأس العام استفاقت تونس على ما يعرف بانتفاضة الخبز،احتجاجا على رفع أسعار الخبز والمعجّنات،عمّت المظاهرات كل أنحاء البلاد وأعلنت حالة الطوارئ ,كنت آنذاك أعيش مراهقتي العاطفية والسياسية ,انضممت إلى جحافل المتظاهرين والمحتجّين ثمّ أطلقت إشاعة بأنّي قد”استشهدت”..وصل الخبر إلى أمي التي أغمي عليها، وأقام رفاقي في بيتنا بإيعاز منّي، مراسم عزاء على أصوات الأغاني الثوريّة، بينما كنت أقضّي ليلتي في بيت أحد الأصدقاء بعد قرار منع التجوال.
لم أكن أقصد من وراء هذه الإشاعة إلاّ جسّ نبض جارتنا الصبيّة التي كنت أحبها بجنون، ففي اليوم التالي,فاجأت جمهور المعزّين بحضوري، وذلك بعد أن “استمتعت” لبكاء جارتنا الصبيّة، أرضيت غروري وأنا أتلصّص عليها من بعيد,عانقتني في البداية، مبتهجة لسلامتي ,بادلتها العناق الذي لم يدم طويلا..لقد عادت لعنجهيتها وعدم المبالاة بمغازلاتي العابرة، وعدت بدوري إلى صوت آلة التسجيل في شرفتي، وأغانيها المتردّدة بين مارسيل خليفة وعبد الحليم حافظ.
برامج تلفزيون الواقع جاءت لتفضح الرومانسية الكاذبة، وشدّت جمهورا كبيرا إليها بسبب حاجة الناس إلى الصدق والواقعية، بعد أن ملّوا الرياء والكذب وتزوير الحقائق، بنظر الكثير من الدارسين، ويضيف أحدهم بأنّ الواقع أكثر صدقا وأغنى خيالا وأمتع معايشة ـ رغم قسةته ـ من الرومانسية المضللة، فالواقعي يعطيك خبزا، أو يمكنك من عمل، أو يساندك في احتجاج، أمّا الرومانسي فيقول لك: تحمل الجوع على أنغام البيانو، أو لماذا لم تأكل الكيك؟ كما تساءلت ماري انطوانيت عشية الثورة الفرنسية.
أغلب شباب الجيل الجديد يصف نفسه بالواقعية، ولا يخفي استهزاءه بالرومانسية، معتبرا إياها ضربا من الماضي الذي كانت تنعدم فيه وسائل الاتصال الحديث، فيركن الناس ـ بنظر أحد الشبان الجامعيين ـ إلى العيش في الحلم، ويضيف: “الآن وقد أصبح الحلم واقعا، فلماذا نشغل أنفسنا بالأوهام، هل حقا يجد هؤلاء الرومانسيون وقتا لذلك؟ وبدل أن تحلم، تعال وحقق حلمك.
“الواقع في نظر شاب آخر يجلس عاطلا في المقهى ـ شديد القتامة، ولا تغيره الرومانسية بالتأكيد، بل شيئ آخر” وظل شاخصا بعينيه أمام جهاز التلفزيون وهو يبث أخبار الكوارث.
بوابة الشرق الاوسط الجديدة