كتاب الموقعكلمة في الزحام

بين عصا الحاكم وعصا الساحر

بين عصا الحاكم وعصا الساحر..(من مفكّرة عائد من دمشق إلى تونس)

هذه الطائرة تقبّل أرض مطار قرطاج قادمة من بيروت ….أي من عاصمة تيه ,على مرمى ألم وبعد نقطة حدود يسمّونها (المصنع) …من مدينة مازالت تدافع عن اسمها كعاصمة لجرح العروبة النازف ….نحو شقيقة مصابة بالشقيقة في الاسم والهويّة وتحديد الاتجاهات.
هذه الرحلة وفي هذه المرّة تشبه متاهة الإله الإغريقي (أوليس) الذي لقّب بسيّد السياحة السائحة في جزيرة جربة التونسية وناشد استقرارا يطلب فلا يدرك.
أليس في الأمر مفارقات ومقاربات وعودة لما خطّه الغرباء والأزمنة,الأعداء والأصدقاء …على الجباه والمصائر ..؟! ,أم أنّ مهمّة التاريخ تكتفي بأن تذكّر بالمواعظ دون جدوى.
تركنا خلفنا دمشق تشتعل خلافات وصدامات ,توقّفنا عند بيروت ترتعش مخاوف وتوجّسات…ثمّ جئنا إلى تونس وهي تقف عند منعرجات …وقد أقسمت أنّ البادئ أظلم أو أثوب أو أخطر في إعلان ربيع مازلنا نظنّه ربيعا رغم تأخّر البراعم والزهور.
ألا تشي الرحلة – مجرّد الرحلة – بعذابات الإنسان العربيّ المعلّق بين ما يكون وما يجب أن يكون ,إلى أين يأخذنا (مصنع التيه ) هذا ….وقد غادرنا دمشق(الألق ) ,عبر بيروت (الأفق) نحو قرطاج (النفق)…؟!.
اللهمّ اشهد أنّنا مع الثورة _أيّ ثورة _ وإن كانت ضدّ أنفسنا ,لكنّ الانتظار مقلق …والثوريون بطبيعتهم ذوو أخلاق ضيّقة .
الأمل كالشمع , قابل للانقراض أوالذوبان…والمتربّصون يصطادون في المياه العكرة والشوارع الضيّقة.
هتفنا للكرامة والحريّة فشاركنا الأشرار والأخيار نفس الشعار ,نهضنا غاضبين وحالقي الذقون فاستفقنا ملتحين ومنقّبات ,قلنا للطغاة (ارحلوا) فرحلوا…وبقيت ظلالهم .
ماذا جرى لبلاد تركتها أنيقة حتى في الوجع والأنين , فوجدتها شبه كسيحة أو في طريقها إلى ذلك.
هل نعود إلى نظرية المؤامرة التي شنقتنا على عواميدها الأنظمة القمعيّة والحكومات الفاسدة والصحافة التي تأتمر بأمر أسيادها.
هل يريد كبار هذا العالم الظالم أن يعلّمونا بأنّ كلمة (لا) يقابلها بؤس وظلام وشحّ في الأوكسيجين وخوف دائم على أمنك وأمن أطفالك…؟!.
قلنا (لا) لأنظمة كمّ الأفواه والأمعاء والطرقات ,فهل يقابلنا البديل بكمّ كبير من (الكمّ)…هل أكلنا (الكم) بكسر الكاف حسب التعبير الشامي العتيق…؟!.
قلنا (لا) سابقا لمن أراد أن يبلعنا كتابا كتبناه أو يرشقنا بحجر رميناه او يسكتنا بكلام أطلقناه ….فهل نعود صاغرين لمن كبّلونا الجباه أو مبتسمين لمن خلعوا أسناننا ثمّ رموا لنا بصحن الطعام.
غريب أمر الحكّام الجدد في بلاد الربيع الذي سوف يأتي , هل مازالوا يعتقدون أنّ الأيادي لم تشف من ارتعاشها بعد ,وأنّ الأكفّ لا تصلح إلاّ للتصفيق وزجّ الأبرياء في زنازين العتمة والانتظار….أم أنّ الرحلة طويلة وتستحقّ البكاء على شهيد حاضر بالغياب ,غائب بالحضور.
وغريب أيضا أمر الشعوب التي فاجأت نفسها وبذرت ربيعها في غفلة منها ومن التاريخ ,إنها في عجلة من أمرها وكأنها تقايض انتظارها الطويل بثمار تؤكل فور زرعها ,وتريد استبدال عصا الحاكم بعصا الساحر .
ثقيلة هي التركة التي خلّفتها أنظمة القمع والفساد ,وليس بوسع أيّ(جرّافة ثوريّة) أن تنظّف جبالا من المزابل المتراكمة عبر سنوات القهر والجمر، وليس بإمكان أيّ مبضع جرّاح – مهما بلغ من المهارة – أن يقحط ما تسلّل تحت المسامات من ثقافة الذلّ والمهانة والتطبيل والتزمير.
يقف المستعجلون الآن طوابير طويلة أمام مدخل الاسعاف السياسي والطوارئ الاقتصادية والاجتماعية في مشفى دول الربيع العربي يطلبون الشفاء العاجل من أمراض مزمنة وأورام خبيثة سبّبتها الأنظمة المخلوعة .. يحدث هذا بإدارة أطبّاء مبتدئين في السياسة والاقتصاد وجبر الأضرار وتقويم الأعضاء المشوّهة بفعل (رومتيزم) السلطة التي كتمت أنفاسنا مثل كابوس لم نصدّق أننا قد استفقنا منه.
ربما نسيت شعوبنا أنّ الثورة الفرنسية قد احتاجت إلى عقود طويلة من التخبّط والثورات المضادّة والجدل والسجال حتى تستقرّ إلى ما هي عليه الآن، ربما غاب عن وعينا منطق (زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون ) … وأنّ الشوارع الفسيحة التي نمشي فيها بحريّة هي تلك التي أطلقنا عليها أسماء من عاشوا قبلنا وناضلوا قبلنا وتألّموا قبلنا.
الثورات لا تحدث كلّ يوم، بل عبر تراكمات تصنعها عقود وعقود، لكنّها إن حدثت، يجب أن تستمرّ كل يوم للمحافظة عليها من المتسلّقين والمتربّصين، فلطالما أجهضت وانحرفت وسرقت ثورات وانتفاضات كثيرة في غفلة من شعوبها.
عزاؤنا الوحيد أنّنا مازلنا تلاميذ الصفّ الأوّل في مدرسة الديمقراطيّة ومن حقّنا أن نخطئ ونتلعثم و(نشخبط ) على الدفاتر ونشاغب على الأستاذ ….عفوا ,هل قلت (أستاذ) ؟…من يدّعي (الأستذة) في مدرسة تكتب برامجها كل يوم.

*كلمة في الزحام :

ما آلمني وحزّ في نفسي هو أنّ المكتبات لم تنهب في ثورات الربيع العربي وما تبعها من فوضى …على عكس المتاجر الاستهلاكية ودكاكين المواد الغذائية.

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى