بين موليير وأبي خليل القباني
بين موليير وأبي خليل القباني … كنت عائدا من فرنسا إلى سورية حين نظر إليّ الشرطي المسؤول عن ختم الجوازات في مطار باريس بشيئ من الريبة والاستهجان ثم قال ” لقد خالفت المدّة المسموح بها في تأشيرة الدخول بعشرة أيام ” ,, استظهرت بوثائق تثبت انشغالي بإقامة ورشة كتابة لطلاّب معهد الفنون المسرحية بمدينة “ليون ” فأومأ برأسه وقال “, لا بأس سنعفيك من دفع غرامة ماليّة “…
لقد قبل الأمر على مضض حين علم بأني قدمت لتدريس بني شعبه من أحفاد موليير وليس طلبا للجوء أو سعيا وراء لقمة العيش في ورشات البناء كما كان يفعل الجيل الأول من أبناء شعبي الطيب الفقير بعد أن جثم الاستعمار الفرنسي على صدره ما يزيد عن السبع وسبعين عاما دون تأشيرة دخول ,أفقره ونهب ثرواته….ولم تطالبه حكومات الاستقلال المتعاقبة بدفع أي غرامة أو تعويض مادي أو معنوي .
لم يأت الفرنسيون إلى بلادنا لتعليمنا الفنون المسرحية , بل زادوا في تجهيل الطبقات الفقيرة الواسعة , كرّسوا الفرقة بينها وسخّروها لخدمتهم , حتى أنهم حرموني متعة النظر إلى باريس من فوق برجها الحديدي بعيني زائر وبهجة مستكشف , ذلك أنّ آلاف الأطنان التي صنعت هذا البرج الأسود كانت قد استقدمت من المنجم الكائن في مدينتي الصغيرة الفقيرة , فأكاد أسمع أنين العمّال في أدراجه ومصاعده ومات أبي من جرّاء استنشاق غباره تحت الأرض وهو يكدح ليتمكّن من تنشئتي وتدريسي …لا ..لن أخونك يا أبي ..
لن أدوس قضبان الحديد التي لامست راحتيك الطاهرتين يا أبي واستقرّ غبارها في صدرك النقي , لن أنظر إلى عاصمة الاستعلاء يشقّها نهر العار كوشم عبوس وهو الذي ابتلع مئات المغاربيين على أيدي الميليشيات العنصرية في سنوات الجمر ولم تنتشل شباك الإنقاذ بعدها إلاّ أحذيتهم المهترئة .
لن أعتلي هذا البرج الأصمّ وهو يباعد بين ساقيه كإقطاعي عربيد أو سجّان لئيم , لن أقطع تذكرة لتذكّر المأساة ومشاهدة أسطح باريس الرمادية بحمائمها الحمقاء من فوق عرق المتعبين وجراحهم حين كانت الأنفاق تتهاوى وتسقط فوق ظهور العمّال في ليالي الشتاء الطويلة , تكتم أنفاس الأمل وتخنق ضحكة الأطفال .
تحسست في جيبي القطعة المعدنية السوداء التي أحتفظ بها منذ الطفولة والتي منحني إياها أبي حين قبض راتبه وقلت ” عفوا يا سيد “إيفيل ” ألست أنت من صمّم تمثال الحرية أيضا ..يا لسخرية الأقدار ومصائر التحف الفنية ..عذرا , سأرمي بوردة في أسفل برجك أخرى في نهر السين ثم أعود إلى حمائم دمشق وهي تراقص بأجنحتها مقامات آذان الجامع الأموي وأجراس الكنيسة المريميّة …يكفيني نصب ساحة الشهداء هناك مع الناس الطيبين والشامخين , أمّا الدراما الإنسانية فلا تحتاج إلى تدريس مع أبناء عمومة أبي خليل القباني وحكمت محسن ونهاد قلعي .