ثلاث خيانات في واحدة
ثلاث خيانات في واحدة … يروّج السياسي للمثقّف في البلاد المتقدّمة فيستشهد بفكره وأقواله ويحاول التقرّب منه حتى على سبيل الدعاية السياسية …مثلما يحدث في بلادنا تماما…مع فارق بسيط في تبادل الأدوار… وهو أنّ المثقّف عندنا هو الذي يروّج للسياسي ويستشهد بأقواله (المأثورة) وفكره الخالد.
السياسات الثقافية لديهم تطعم العين والفكر بشتى وجبات الفنّ والإبداع فتستحي البطون والجيوب من الامتلاء الفاحش وغير المشروع….أمّا في بلادنا فيطعمون البطون والأفواه المنشغلة بالمضغ …وتستحي العيون – ساعتها – عاجزة عن مواجهة مخرز السلطة .
في بلادهم يأخذ المثقّف بيد السياسي ل (يورّطه) في حقول الفكر ورياض الإبداع والحرية واحترام الانسان, إلاّ نحن , فالحاكم عندنا هو الذي يأخذ بيد المثقّف ليسحبه إلى مستنقعاته التي تفوح منها روائح الظلم والجهل والاستبداد.
هم يتقرّبون إلى المثقّفين والمبدعين في حملاتهم الانتخابيّة, فيحاولون كسب ودّهم والأخذ بمشورتهم وتفهّم أمزجتهم …تماما ,مثلما يحدث في بلاد العرب …مع فارق بسيط ومعكوس :وهو أنّ (مثقّفينا) هم الذين يحاولون الاقتراب والتقرّب من رجال الحكم و(الاستفادة) من نصائحهم الثمينة بضرورة المبايعة والولاء المطلق.
هم يشبهون البلاد التي يحكمونها والشعوب التي أولتهم ثقتها حين جاؤوا سدّة الحكم عن طريق الصناديق (لا التوابيت) …أمّا نحن فتصبح البلاد هي التي تشبههم … ويصاب الناس بالزكام إن عطس حاكمهم, تتورّم أكفّهم تصفيقا إن ظهر, وتبحّ حناجرهم هتافا إن رفع يده بالتحيّة. تعجّ حدائقهم وتمتلئ قاعات عرضهم بتماثيل وصور أعلامهم الراحلين في تاريخ الفن والفكر والمعارك المشرّفة … وتزدحم حيطاننا وشوارعنا ومؤسّساتنا ورياض أطفالنا …ودكاكين حاراتنا وغرف نومنا بصورة شخص واحد مازال على قيد ضحاياه.
هؤلاء هم ساستهم وساستنا, مثقّفوهم ومثقّفونا, لا فارق لفظيّ واضح بين النموذجين في ظاهر العبارة, لكنّ الفارق الحضاريّ يقاس بالسنوات الضوئيّة .
إنّ مجرّد نظرة سريعة إلى قاموسنا وقاموسهم في تعريف السياسي وتعريف المثقّف كفيلة برفع الاستغراب والالتباس ,ومن ثمّ الردّ على كومة من التساؤلات والمقارنات:
السياسي لديهم هو الشخص البارع في فن قيادة المجتمعات نحو المصالح العليا لبلاده التي يكفلها ميثاق وطني… إنّها مسؤولية الفرد تجاه المجموعة فهي , إذن, من أنبل الأفعال الانسانية.
السياسي في (منجدنا) تأتي من كلمة ساس يسوس الخيل, أي روّضها (اسطبليّا) وتحكّم في مآربها وشؤونها.
المثقّف لديهم هو من ينتج معرفة تضيف على سابقتها فتستفيد منها المجموعة البشريّة, وهو يمثّل النخبة أو الصفوة التي تعدّ مرجعا يعود إليه الناس فيتّفقون أو يختلفون حوله … لكنّهم لا يختلفون عليه.
المثقّف في القاموس العربي, جاء من كلمة ثقّف العود تثقيفا, أي قوّمه وجعله (مطواعا) وعصيّا على (الاعوجاج) ……!…هذا –تقريبا – ما قرأته شخصيّا في قواميس السلف (الصالح) ولم أزد عليه شيئا.
لكنّ لقائل أن يقول : هل مشكلتنا لغويّة أم حضاريّة مع العالم المتقدّم؟… فاللغة كائن حضاري حي يتطوّر بتطوّر الشعوب, وليس حذاء صينيّا تقليديّا يلصق بقدم الفتاة من المهد إلى اللحد.
أعتقد أنّ الأزمة في تشخيص (الأزمة) قبل معالجتها, فليس من المنطق أن تستأصل منك الزائدة الدوديّة وأنت تعاني من صداع نصفي, وليس من الحكمة أن تأتي بصندوق اقتراع شفّاف ولجان مراقبة نزيهة … والمرشّح شخص واحد … وإن كان بوجوه مختلفة.
من المضحكات المبكيات في عالمنا العربي أنّ نتيجة التصويت لأحدهم جاءت بنسبة 99 بالمائة فاضطرّت السلطات لتزويرها وجعلتها 97 بالمائة, حفاظا على المصداقية والنزاهة .
نعم, لقد صارت الحكومات العربية أشبه بسارق يحمل شمعة, وأمسى المواطن البسيط (صادقا) حين يدلي بدلوه فارغا ويخرجه فارغا, ويعرف النتيجة سلفا حين يساق إلى صناديق (الابتلاع) طوعا أو كراهيّة مثل خروف الاضحى … فلولا التشهّد لكانت (لاؤه) (نعم ) على حدّ قول الشاعر.
إلى متى ستستمرّ هذه التراجيديا الهزليّة, أظنّ أنّ أوّل مائة عام من حياة المواطن العربي سوف تكون صعبة نسبيّا, ثمّ يستمرّ الأمر ويستقرّ على أحسن حال … هذا ما تشير إليه العرّافات وقارئات الفناجين والأكفّ اللاتي يقصدنها سياسيونا ومثقّفونا قبل المواطن البسيط, ذلك أنّ الأخير يعرف النتيجة سلفا, مثل من يلعب النرد أو البرسيس مع حماته… إن غلبها غضبت عليه وإن غلبته رضيت عنه.
*كلمة في الزحمة:
خيانة المثقف ثلاث, واحدة لنفسه والثانية لشعبه والثالثة للتاريخ…, ذلك أنّ تبريراته للاستبداد (مقنعة ) أكثر من غيره….ومضلّلة للأجيال.