كلمة في الزحام

” ثوري بعد الخمسين”

 ” ثوري بعد الخمسين”.. “اسمع أيّها الرجل الصغير.. أنت الآن على حق ـ بل ينبغي أن تكون على حق ـ  ولكن اعلم أن من لم يكن ثوريّا في سن العشرين فهو بلا قلب, ومن ظل كذلك بعد الأربعين فهو بلا عقل”.. العبارة التي همس لي بها سائح أجنبي عجوز وهو يربّت على كتفي ثم ترك لي علبة سجائره على الشاطئ وغطس مزهوّا بحكمته المتأخّرة  في بحر مترامي الأطراف.

كنت  أدخّن من مارلبورو ذلك السائح العابر دون آبه, وكلّما هزت حماستي فقرة في صفحات كتاب “ما العمل؟” للرفيق لينين، تمنّيت أن أخنق ذلك العجوز الذي سخر من حسي الثوري ثم ارتمى في المياه كدبّ قطبيّ لا تحرّكه مشاعر البروليتاريا الرثة.

أنا الآن أعيد تصفّح  ذات الكتاب في ذهني، وفي ذات المكان  بعد عقود من الزمن وقد شحبت كلّ الألوان ما عدا البحر.

هل تأخذ التجربة بأيدينا لتعلّمنا أنّ كلّ بوصلة لا تشير إلى جميع الاتّجاهات هي مضلّلة بالضرورة وأنّ كلّ كتاب يبتلعك ولا تبتلعه هو مجرّد حبّة مسكّن يزول مفعولها على حين وجع جديد، وأنّ الحياة هي ـ بالفعل ـ سوق تتسع لمئات الدكاكين.

لو تنبّأ العرّافون  لأنفسهم لما كانوا عرّافين ولو عرفت المصائر لما سميت بالمصائر ولو كنّا ملائكة لسكنّا السماء.. هذه هي الحياة لا تزيّنها ولا ترفع من قيمتها سوى الأخطاء.. تماما مثل توقيع حائك ماهر على سجّادة أعجميّة متقنة الصنع.

نعم,لا يأتي الحماس والحكمة والثروة والوسامة  في نفس القطار، لكنّ الحب ينزل عليك في كلّ لحظة  تتوقّعها أو لا تتوقّعها.. إنه كأمطار صيفية أو حتّى  لمسات ممرّضة في دار للمسنّين.

الرؤوس ترأس، تشيب، تنحني للعواصف وتلتفت في كلّ الاتجاهات، لكنّ القلوب تتقلّب وتبقى مكانها كالساعات الجدارية.

رمية نرد هي إرادة الأقدار، ومهارة في ترتيب الأحجار هوّ خيارك فلا بأس ولا مناص من خسارة  تجعلك تعشق اللعبة وتدمنها.

الآن وقد ذهب الذين ذهبوا, بكتبهم و تنظيراتهم وصدقهم وغشّهم وحقائقهم وأوهامهم، ولكن بقيت قصص حبّهم شاهدا يشير إلى أنّ ما عاشوه كان أكثر سحرا ممّا كتبوه.

إنه الحب  الذي يجعل من صهوة الفرس وطنا إن كنت خيّالا، ومن مكنسة التنظيف صولجانا إن كنت زبّالا.. ومن سريري سحابة إن كنت حالما مثل ذاك الفتى الذي كنته على الشاطئ.

كتب ثورية كثيرة بعتها للورّاقين تحت الجسور وعلى الأرصفة، دون ندم أو تردد، لكنّني مستعد لإعادة شرائها كلها كي أقرأها على مسامعك عند الشاطئ بحماس.. أنت تسبحين وأنا أدخن سيجارة مارلبورو، وأعيد القراءة وكأنها أول مرة.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى