حلاّق ذقن، سائق تاكسي…وكاتب (رأي)
حلاّق ذقن، سائق تاكسي…وكاتب (رأي) .. الصفة المشتركة بين الشخصيات الثلاثة المشار إليها في عنوان هذه السطور هي الكلام، مع فارق بسيط، لكنّه جوهريّ، وهو أنّ الكاتب يحترف الكلام – ولا شيء غير الكلام – كتابة لا تحدّثاً، بينما يستخدمه السائق والحلاّق كواحدة من المفردات الموازية للمهنة، بل من أساسياتها أمام مقود السيارة أو إلى جانب كرسي الحلاقة .
يندر وجود سائق أو حلاّق ينتميان إلى فئة الصمّ والبكم، رغم أنّ الأوّل يعمل بالمقود والدوّاسة والثاني يستخدم المشط والمقصّ، ذلك أنّ الزبون في حاجة إلى من يستأنس إليه وهو يسلّمه الرأس والذقن أو وجهته في الطريق، وليس أفضل من الكلام وسيلة لخلق تلك العلاقة وإبرام ذاك العقد الشفهي الذي لا يدوم في العادة أكثر من ساعة ..
خاطئ من يعتقد أنّ الكلام ليس عليه جمرك، أو أنّه مجّانيّ وغير مكلف بما أنّ أداته لسان وحنجرة، إذا كان كذلك فلما (الإكراميّة والبقشيش) في أعراف المهنيين والحرفيين ؟! .
ما يشجّع الحلاّق على حبّ التحدّث إلى حدّ الحذلقة والثرثرة هو اقتراب فمه من أذن الزبون الذي لا يشاركه الكلام إلاّ بعبارات مقتضبة بحكم حذره من (حركة عشوائية طائشة ) قد تصدر من المقصّ أو موسى الحلاقة، كذلك يساهم عامل تنوّع الزبائن على مختلف مشاربهم وثقافاتهم ممّا يجعله وكالة أنباء الحيّ ودليل التائهين في العناوين، ولعلّ أشهرهم في التاريخ هو البديري الحلاّق الدمشقي الذي ترك إرثاً توثيقيّاً ودراميّاً مدهشاً، أمّا أطرف(شوفيريّة التاكسي) من الذين صاروا كتّاب قصّة في دمشق فهو الصديق المرحوم الشاب صالح موسى الذي قضّى سنوات طويلة وهو ينقل كتّاباً وفنانين إلى بيوتهم أثناء تلك السهرات الدمشقية الجميلة… ومن عاشر الكتّاب نال شقاءهم.
لكنّ السؤال الماكر الذي تتناسل منه أسئلة كثيرة أخرى هو: لماذا يريد الإنسان سماع ما يشتهي ويحب مزاجه ويدفع في سبيله النقود … ولماذا مازال تبادل الأحاديث العابرة رائجاً في مجتمعاتنا، ولم تهزمها أصوات الراديو والتلفزة في سيارات الأجرة وصالونات الحلاقة؟… لماذا نحتاج دائماً إلى ضجيج الحديث فنشغّل التلفزيون في البيت أمام الضيوف لتعبئة فراغات الصمت الذي يقلقنا ويشعرنا بالريبة ؟ … لماذا نخاف الصمت ونهرب منه حتى إلى الثرثرة والتنصّت إلى ضجيج المارة وأصوات الباعة ؟! لماذا لا يتبادل الصديقان عندنا (عبارات الصمت) كما كان يفعل الكاتبان (صموئيل بيكت و أندريه بروتون)، لماذا لم يدخل الصمت وحسن الإصغاء الطويل في ثقافتنا وتقاليدنا كما هو الحال لدى المجتمعات التي ترتاد دور الأوبرا وأمسيات العزف الهادئ الطويل.
أعتقد – وللأسف الشديد – أنّنا قد وصلنا إلى هذا الصمت، ولكن من بوّابة أخرى ولغاية أخرى … إنها الريبة والشكّ التي بدأت تعصف بالحياة الاجتماعية في البلاد العربية .
غاب الأمان فحلّ سوء الظنّ والخوف والتريّث محلّ تلك الطمأنينة وصار الحديث مع الآخر مشوبا بالحذر بعد أن كان الحلاّق لا يسأل عمّا في رأس الزبون وسائق التاكسي لا تهمّه الوجهة التي نقصدها، بل نتسلّى بأحاديث عامّة (وربما خاصة وحميميّة)، رغم أنّ السياسة كانت غائبة …(لعن الله السياسة والسياسيين) كما قال توفيق الحكيم عندما قصد حلاّقاً مهذاراً وثرثاراً ومهووساً بالسياسة فرسم له الأخير خارطة اليابان أثناء الحرب العالمية على شكل جزيرة من الشعر في رأسه وبدأ بشرح الخطّة العسكرية لجمهور الزبائن مثل خبير استراتيجي.