حي بن يقظان السوري
حي بن يقظان السوري … تاه ثلاثة من الرحّالة ـ فرنسي وأمريكي وسوري ـ في أدغال إفريقيا ووقعوا في قبضة قبيلة من آكلات لحوم البشر فاقتادوهم إلى الزعيم لينظر في أمرهم وبعد تفكير ارتأى مستشاره أن يسأل كل واحد عن البلاد التي جاء منها , فإن عرفها الزعيم نجا من المصير الذي ينتظره في القدر الكبير المعدّ فوق النار..
سأل الفرنسي عن اسم بلاده فأجابه بأنه قادم من فرنسا البلد الأوروبي الشهير , مدّ الزعيم شفتيه شبرين مستهجنا وطلب أن يشرح له أكثر فأطنب الرحّالة في توصيف صورة بلاده وتقريبها لذهن الزعيم في مجالات التاريخ والاقتصاد والثقافة ولكن دون جدوى ..
سأل الأمريكي ذات السؤال فحاول أن يخبره عن بلاده الأشهر في العالم بكل الطرق ووسائل الإيضاح و لم ينفع معه شييء فاقتيد مثل زميله الفرنسي إلى قدره في “القدر الكبير” كوليمة دسمة ..
جاء دور السوري وما أن نطق باسم بلاده حتى تهللت أسارير الزعيم , ابتسم وقام من مكانه ليقترب منه وهو يمسح على كتفه قائلا بحنين جارف ” من أي حارة أنت ؟ وهيا حدثني يا عزيزي كيف حال ساحة المرجى ؟ وباب سريجة وعين ترمة وداريا وبابيلا والجزماتية ومشحم عامر ومحلات بوز الجدي و شاورما أبو العبد ..هيا حدثني , ألم يزل فرع فلسطين في مكانه وسجن عدرا والهجرة والجوازات ..الخ
اندهش الرحّالة السوري لهذه الإحاطة والدراية الواسعة التي يمتّع بها الزعيم في معرفة بلاده دون غيرها فقال له المستشار بكل فخر واعتزاز ” إن زعيمنا قد درس الجغرافيا و التاريخ في جامعاتكم “..
تسحب هذه الحكاية على بلاد عربية وعروبيّة كثيرة , وإذا استثنينا تلك “المسحة العنصرية ” في الذريعة الحكائيّة التي قد تغلّف هذه الطرفة الشعبية, فإن الرسالة قد وصلت للمتلقي العادي والاستثنائي , وهو أنّ النزعة الشعبوية في التعليم الموجّه لدى بلاد كثيرة باسم الجماهيرية التعبويّة قد ” أتت أكلها ” عبر عقول متحجّرة و أخلاق بدائية وسلوكيات شوفينيّة , تزدري الآخر عن جهالة مقصودة وتمجّد الذات باستعلاء مرضي ..وبسبب سياسات تعلّم الأميّة في المدارس على مبدأ ” قبلهم لم يكن هناك “قبل ” , ابتداء التاريخ من يوم جاؤوا ” .
ما شفع للرحّالة الذي كاد يلقى حتفه في القدر الكبير هو أنّ زعيم قبيلة آكلي لحوم البشر كان قد درس ـ وبالصدفة والمجّان ــ في ربوع بلاده وذاق طعم خبزها وربما حتى سجونها ومعتقلاتها ….
ألا يذكّرنا هذا بجامعة “باتريس لوممبا “” الشهيرة في روسيا السوفيتية والتي كانت تفرّخ آلاف الخريجين من مختلف أصقاع العالم الثالث و لا تسأل عن سمعة شهادات بعضهم التي اشتروها بالوسكيي والمارلبورو و والجينز الأميركي , بل تركّز على الولاءات الايديولوجية لدى الأصدقاء ” ممن سيصبحون قادة المستقبل في بلدانهم “السائغة “.. أمّا الفارق الوحيد هو أنّ الروس لم يكونوا يعاملون هؤلاء بحجم الصرامة والمسؤولية التي كانوا يعاملون بها أبناءهم الحقيقيين وليس أبناء الجواري ممن ملكت خططهم وأطماعهم ..
شاءت الظروف و الأقدار أن يتعرّف عامة البسطاء من السوريين إلى بلاد الغرب الأوروبي والأمريكي غصبا عنهم , والتي لم تمكّنهم حتى مادتا الجغرافيا والتاريخ من التعرّف إليها بشكل جيد و نزيه فوقفوا في البداية مشدوهين و مرتبكين ثم صاروا متفاعلين وفاعلين ..وها قد أصبح الكثير منهم اليوم متفوقين مبدعين بل ومزاحمين لأصحاب الأرض المضيفة ..وربما أهلا لأصحاب قرار المستقبل في بلاد اللجوء ..من يدري ؟ …ولكن….
لم يلتق “رحّالة سوري ” في تغريبته الحاليّة و القسرية “زعيم قبيلة أوروبي” يكشّر عن أنيابه أمام قدرة فوق النار, يقول له صف لي البلاد التي جئت منها بسبب أنه لم يدرس في جامعاتها التاريخ والجغرافيا و يتعرف لأدقّ حاراتها الشعبية وفروعها الأمنية .
لقد كان الحس الإنساني هو الطاغي في تعامل الأغلبية الأوروبية غير المسيّسة بفعل مخزونها الثقافي مع اللاجئ السوري البسيط الذي أبدى بدوره مرونة وسلوكا حضاريا ورثه وهرّبه تحت جلده منذ زمن بعيد , ّأما السلوكيات الشاذة المتطرفة فتحفظ لدى كلا الطرفيين ولا يقاس عليها , ذلك أن حجم المؤامرة على هذا الشعب تناهز تعقيدات السياسة , بل وتتفوق عليها ..
إذا كان لسفر الخروج السوري من بعض المنافع و المناقب فإنه قد جعلهم رحّالة وسياحا ومكتشفين بالإكراه , فأعادوا النظر فيما كانوا قد تعلموه من مادتي التاريخ والجغرافيا و رجعوا يتلمّسون العالم الذي خبره أجدادهم وساهموا في تأسيسه ولكن بضريبة قاسية هذه المرة وطعم أمرّ من الغربة , ذلك أنّ البحر الذي روّضوه في الماضي قد تنكّر لهم وابتلع الكثير من أطفالهم .
انحلّت عقدة الانغلاق والتقوقع لدى من أبصر الشمس تشرق خارج بلاده أيضا وليس بنعمة أو فضل من أحد , شاهد أوطانا جميلة دون أناشيد وطنية و رأى من كان يعتقد أنهم غزاة وكفارا ومتآمرين وهم يحبون ويتناسلون ويساعدون دون مقابل , كما اكتشف زيف من ظنهم بالأمس إخوة وحلفاء و رفاق سلاح .
كلمة في الزحام
إنه “حي بن يقظان السوري ” , أرضعته ذئاب الحرية قبل أسطورة روما واكتشف نار العنفوان قبل بروميتيوس اليوناني …سخر من التاريخ والجغرافيا قبل لقائه بآكلي لحوم البشر ..وسينجو من كل القدور التي تحضّر له .