خذوا رومانسيتنا واعطونا مشكلكم
خذوا رومانسيتنا واعطونا مشكلكم..لا يختلف اثنان في أن البكاء على مقعد سيارة ليموزين أفضل بكثير من البكاء على مقعد بيسيكليت أو في حديقة عمومية.. ومن يقول غير ذلك فهو شخص تبريري وأفّاق، و”يحاول تغطية عين الشمس بالغربال” كما تقول العامة.
الرفاهية تجعل أحزان صاحبها ـ ومهما كانت تافهة ـ ذات وقار شديد، كما أنها تمنح نكت السمجين آذانا صاغية وأفواها تضحك ملء أشداقها من بين الحضور.
و أيضا الرفاهية تتستر على جميع العيوب والنقائص بل تجمّلها فتجعل منها خصالا وفضائل كـأن يصبح المفلطح الأصلع، القصير البدين مربوعا و”كربوجا”. ويمسي الأحمق الغبي طيبا وعفويا، ويتحول الصوت المزعج الأجش، رخيما وذا بحة مستحبة.
الرفاهية كانت، ولا تزال، مطمح البشرية عبر التاريخ، بما في ذلك تلك النظريات الثورية والحركات العمالية. وحتى الفوضوية الطامحة إلى التمرد على أنظمة الاستبداد وقوى احتكار السلطة.
الأغنياء والمرفهون في غالبيتهم فئة ماكرة تقلب الحقائق لصالحها عادة، وتحاول إقناعك بالبقاء فيما أنت فيه كأن تحسد الفلاح البائس على “نقاء حياته وصداقته للبيئة”. وتغبط العامل التعيس على نشاطه ورشاقة جسمه.
لا يتردد هؤلاء الميسورون الخبثاء في تمجيد الشقاء البشري وتجميل ما لدى الفقراء من فقر وخصاصة باسم البساطة والبعد عن حياة التعقيد في الوقت الذي اشترى فيه الأغنياء حتى الحياة البسيطة نفسها وتركوا لهم دخان المصانع وضجيج السيارات وفواضل رفاهيتهم.
الذين يقتنون المنتجات البيولوجية ويتمتعون بالهواء النقي ويستأثرون بمصادقة الطبيعة هم الأغنياء وحدهم. أما الفقراء فإن لم يمسحوا دموعهم بأطراف أكمامهم فوق الدراجات الهوائية، وتركوها تمتزج مع مطر الشتاء. فإنهم في نظر الأغنياء، يغنون مع محمد عبدالوهاب “ما حلاها عيشة الفلاح” في جو رومانسي “ساحر”.. ساحر إلى درجة أنه حوّل الفقراء والمسحوقين إلى كائنات زاحفة وأخرى داجنة وساحلة ومتسلقة.
غنم المرفهون من هذه الحياة ما غنموا وانبروا يقنعوننا بصحة وصواب ما نحن فيه. ونجحوا في إقناع قسم كبير منا بضرورة أن نحدّث بنعمة الفقر والبؤس والجهل والمرض.
ومثل الحدائق المحرمة لدى قدماء أباطرة الصين، انفرد أصحاب المال بالرفاهية. واكتفوا بسرد مثالبها وعيوبها على أسماع الفقراء مثلما كانت تفعل الكنيسة والإقطاع بالأقنان والمستضعفين في العصور الوسطى.
مهلا أيها السادة.. لدي فكرة.. ما رأيكم في تأخذوا ” سعادتنا” ونحن نغني “يا اللي زرعتو البرتقان” في المزارع تحت الشمس والإهانات، ” رومانسيتنا” في مواجهة العجاج وبين حفر الطريق، ونحن نصدح برائعة عبد الحليم وشادية على الدراجة الهوائية “حاجة غريبة”؟، وفي المقابل، تمنحوننا سياراتكم الفارهة لنبكي فيها قليلا.
ولا تنسو كذلك أن تأخذوا كؤوس حليبنا قبل النوم، والبيض الدافئ من قن الدجاج لتعطونا أقداح الويسكي. وجبات الكافيار، وأطباق الصومو فيمي.. ما أروع أن ننتشي ونحن “نتألم لتعاسة ما وصلت إليه البشرية”.