درس في ( المواطنة).. العبد ليس له وطن
درس في ( المواطنة).. العبد ليس له وطن .. كنت فتى غرّا، حين قصدت محطّة الميترو الباريسي برفقة صديقتي الفرنسية ذات صباح بارد، مددت يديّ المرتجفتين إلى جيبي وأخرجت بعض ما تبقّى من (الفرنكات) كي أقتني تذكرتين لي ولها …وكي لا يوصف العربي بالبخل في آخر قلعة للدفاع عن حاتم طي، بعد خجل صلاح الدين وابن خلدون وعروة بن الورد.
فاجأني مدخل الميترو بأنّ أبوابه مخلوعة –بفعل تظاهرة لأبناء الضواحي-، ابتسمت في سرّي وقلت لنفسي: (حسنا، سأحتفظ بهذه التذكرة -غير المقطوعة- لمشوار آخر… شكراً للذين جعلوني أقتني وسيلة نقل سريعة دون ثمن أو مراقبة… شكراً لأبناء العم)
ما راعني إلاّ أن أخرجت صديقتي التذكرة (التي اقتنيت لها إياها)، شطرتها إلى نصفين – كعلامة على عدم استعمالها بعد الآن-، ثم قالت: (هيّا افعل ما فعلته أنا الآن).
– لكنّ الباب مفتوح والرقابة غائبة، لنوفّر ثمن التذكرة إلى رحلة أخرى…!؟.
– أنا لا أقتني تذكرة خوفا من أعوان المراقبة، بل احتراماً وتقديراً ومكافأة للعاملين والموظفين في هذه الشركة-حتى وإن كانوا غائبين أو مضربين-…. كيف لك أن تتمتّع بخدمة دون دفع ثمنها…!؟.
أعترف أنّ هذه الحادثة قد غيّرت في نفسي مفاهيم كثيرة، زعزعت في داخلي ما تعلّمته عن الصعلكة، خجلت من استهتاري … وجعلتني أفكّر كثيراً في مفهوم المواطنة…. وأذهب عميقاً في دمي.
كيف يصبح الواحد شريكاً في وطن بطوع إرادته وقناعته، يبنيه ويبنى له دون خوف من رقابة تردع قبل أن تعاقب.
كيف للواجب أن يستيقظ في غفلة عن كل العيون الساهرة عليه.
لن أحدّث صديقتي عن كل التجاوزات في منطقتنا العربية، ابتداءً من انتهاكات قوانين السير والمرور … ووصولاً إلى ما لا يمكن لها أن تتخيّله.
لن أحدّثها عمّن ينظّف بيته ويوسّخ الشارع، لن أخبرها عن التلاعب بعدّادات الماء والكهرباء…. ولن أشرح لها فلسفة: (دبّر راسك).
ولكن… ما الذي جعلنا هكذا يا خير أمّة أخرجت للناس؟ ما الذي جعلنا لا نفرّق بين الدولة الثابتة والحكومة المتحوّلة .. فيمسي المحتجّ مثل ذاك الذي أراد أن ينتقم من خيانة زوجته فخصا نفسه.
ما معنى أن ينتقم العربي من المرافق العامّة ساعة غضبه من مسؤول أو فاسد أومرتش.
لماذا غاب الشعور بالجماعة أمام مصالح الفرد ونزعاته الخاصة؟.
لماذا صار راكب السيارة يعتقد أنه الأفضل، فيدعس على دوّاسة البنزين أمام مترجّل يعبر الطريق خائفاً مثل أيّ كائن آخر وضعيف…. ولا ينتمي للوطن.؟!.
لماذا قالت لي صديقتي الفرنسية : اقطع تذكرتك، حتى وإن كانت البوّابة معطّلة وأنت في منأى من رجال المراقبة.
لماذا تردّدت في فعل ذلك…؟ هل لنقص في الموارد (الجيبيّة)، هل لبخل… أم لثقافة تعتقد أنّ شعرة من(….) الخنزير مكسب، كما تقول أمثلة العامة والمتّكلين على جهود الآخرين…. والمتربّصين للهفوات.
ما زال سجال المواطنة يطرح ساخناً في منطقتنا العربية، لا لغياب الوعي وحده والإحساس بالمسؤولية ، بل لخلل يحدّد هوية الملكيات، فيعتقد الواحد منّا أنّ حاوية القمامة لا تخصّه و أنّ الطريق العام لا يخصّه وأنّ عدّادات الماء والكهرباء والهاتف كائنات غريبة تنهش جيبه وتتربّص براتبه.
ما زال هناك خلل واضح بين الملكية العامة والملكية الخاصة نتيجة غياب الثقة بين الفرد والمجموعة ، دولة الاقطاع ومواطنيّة القن… وهكذا يسرق العربي من جيبه بتلذذ ومتعة دون أن يدري.
بادر شباب مصر وتونس في تنظيف ساحات اعتصامهم أثناء غياب عمّال التنظيف وسيّر بعضهم حركة المرور، حموا المرافق العامّة عند اختفاء رجال الأمن … حين أحسّوا أنّ بلادهم تخصّهم وحدهم دون غيرهم… كان ذلك بعيد ثورتهم العفويّة وقبل أن يتزاحم الانتهازيون لامتطائها.
بادرت إلى شطر تذكرتي إلى نصفين، وضعتها في جيبي حين نظرت إلى الأرصفة النظيفة، فأردت أن أكافئ عمّال التنظيف في غيابهم.
أقدم الزنوج في ثورتهم على حرق البصرة حين استقدمهم الخليفة العباسي لتجفيف مستنقعاتها، والعمل فيها دون مقابل ….لأن البصرة لم تكن تعنيهم … ولأن ّ العبد ليس له وطن…..
هكذا تبرّر العدالة وتغفر لأبنائها في ساعات الظلم أو القصاص، هكذا يعرف العربي –بالغريزة – ويفرّق بين من سرقه وبين من رعى مصالحه…. فيعطى ما لقيصر لقيصر… وما لـ (لله) لـ (لله).
*كلمة في الزحام :
كدت أقول لصديقتي بعد تفكير طويل : (أوقفي هذا الميترو، أريد أن أنزل)… على غرار من قال: (أوقفوا هذا العالم، أريد أن أنزل).