أطيافكتاب الموقع

ذكرى ليلة الميلاد

ذكرى ليلة الميلاد

(قبل ستين سنة)

أدرك بوعي وتفهم وارتياح أني من جيل غارب (من التراب.. إلى التراب) وأنا أعني بذلك الجسد حصرا، لكن هذه الشعلة الخفية التي نسميها العقل أو الروح، والتي وصفها أحد كبار الصوفية بأنها (شعاع من سراج الغيب) سوف تنطلق من أغلال الجسد لتأخذ مكانها في مدارات الكون. ولعل الشعر هو الشرفة الرمزية التي ننطلق منها مثقلين بهموم الواقع لنطل بشغف مكنون في غيابة الأعماق على ذلك الفضاء الغيبي الطليق…

لكني أعترف، بلا أسف ولا تواضع أو استياء، أن شعر جيلنا لم يعد مقروءا كما كنا نقرأ قصائد أساتذتنا الكبار من جبران وإيليا أبو ماضي والشابي وعلي محمود طه.. وصولا إلى السياب وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور. وبرودة أعصابي تجاه إهمال شعرنا نابعة من إدراكي العميق لأحوال الزمن وتطور التجارب وفق كل جيل، فنحن شغلنا ساحة انتشارنا في أوانها، وجاءت بعدنا أجيال أشعر بمتعة فكرية وغبطة روحية بقراءة أعمال المبدعين من هذه الأجيال القادمة واستيعاب تجاربهم.

وأعود إلى ذكريات جامعة دمشق في أيام الوحدة (بين سوريا ومصر) وما بعدها، أي قبل أن تنتشر في حياتنا العربية وفي العصر كله فلسفة ماركوز التي طرحها في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد”. ولنترك ماركوز لبعده الأحادي العقيم، لنتوقف لدى واحة الشعر. إن من يراجع مجلة (الآدب) اللبنانية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي يكتشف ذلك الزخم الجديد المشرق لقصيدة التفعيلة، ولم تكن المعايير النقدية حولها ملتبسة كما هي حالنا اليوم مع قصيدة النثر.

قصيدتي الآتية بعد هذه الكلمة مكتوبة قبل ستين سنة، وهي منشورة في الآداب. واحتفائي بأعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة، وإعجابي الشديد بالشاعر الرومنسي بيرسي ب. شيلي، ولا سيما قصيدته (أنشودة إلى الريح الغربية) Ode to the West Wind حيث يختمها بهذه البشارة الرائعة: (أيتها الريح، إذا حل الشتاء فهل بوسع الربيع أن يظل بعيدا؟) هذه المواسم مجتمعة هي التي تدعوني لنشر هذه القصيدة مع الإهداء، وكنت يومئذ في حالة بائسة لا يمكن أن تنسى.

وأود التأكيد أن الشعر يكتب في حالة غائمة يصعب علي شرحها… ولذلك أعتبر الإبداع الشعري أقرب إلى الأنوثة أو أنه حالة أنثوية بامتياز. – وهذا ما عبرت عنه بالتفصيل في كتاب الذكريات الموسوم بـ:”الحنظل والرحيق”.

ملاحظة: أضع خطا مائلا في نهاية كل سطر من القصيدة لكي لا تأخذ مساحة كبيرة في النشر.

في ليَلة الميلاد

(إلى ممدوح عدوان.. ومواعيد المطر!)

لم أنمْ.. كنت وحيدا/ والسكونُ العنكبوتيُّ يغشِّي عالمي/ ناسجاً حوليَ تابوتاً جليدا/ “من أنا؟” غمغم شيءٌ خلف حسّي/ “ما حياتي.. هذه الحرباءُ؟!”/ وانساح السؤال/ تافهاً، مرّاً، بليدا/ في سراديبَ من الوهم، سراديبَ كنفسي/ بابُها – إن كان للمغلق بابٌ – ما يزال/ حلمَ طفلٍ غجريّ الدم، خيطاً من محال/ *   *   * لم أنم، من لي بغمضة؟/ وملاكُ النّوم يمضي في إجازة/ دارجاً خلف الرؤى/ خلف ارتعاشاتِ الخيال/ إنني أحيا كفأرٍ جائعٍ في مصيدة/ سمِّها – إن شئتَ – غرفة!/ أقضمُ اللاَّشيءَ، أصغي لعزيفِ المردة/ وارتمت عيني على الحائط صدفة/ فاعترتني رعشةٌ باردةٌ حيرى/ كموسيقى جنازة/ وكأمَّ فقدت كلَّ بنيها../ كدت أبكي/ في حقولي للندى جوعٌ ولهفة/ ويدي تمتدُّ في شبه محفَّة/ لتواري في رماد المدفأة/ بضعةً مني، نسغاً جّف، عيناً مطفأة/

جثةَ الضّيف الذي لم يبقَ من جثمانه غير الكفن: عاميَ الميْت المسجّى في غيابات الزمن/ *   *   * /   وفُجاءة../ مزّقت عني خيوطَ العنكبوت/ همسةٌ تندى حنوّاً وسماحاً وبراءة/ أنهٌ تحمل آلام البشر/ رنةُ الأجراس يهتزُّ لها قلبُ الحجر/ وقُطَيْراتُ دمٍ.. صحوُ القمر/ ودَّ لو يغرقُ فيها ويموت/ فبدا لي أنّ أخشابَ الصليب/ أخذت تخضرُّ، تنمو../ تملأ الدنيا أراجيحَ وطيب/ فتعلّقت بغصنٍ أيّ غصنِ!/ وعبرتُ البابَ في ثوبٍ قشيب/ ناسياً قسوةَ حرماني وسجني/ *   *   * / كان وجهي قاسيون/ لا أحسُّ الشوكَ يدمي قدميّ/

والصخورَ الزرق أشباحَ المنون/ تتمطّى، تستثيرُ الرعبَ فيّ/ ذاهلاً حتى عن الليل ولدغ الزمهرير/ واشرأبَّت من جيوبِ القاع أعناقٌ/ ولفَّتني عيون:/ “ويحَه.. ما يبتغي؟/ هذا جنون!/ فرّ منّا؟ عافنا؟ يا للشقيّ!/ شُدَّه، يا قاع، حاذرْ أن يطير/ جُرَّه غصباً إلى جوفِ الحضيض الأبديّ”/ . . . . / كدت أهوي رمّةً باليةً من ألف عام/ فتلقّتني يدُ الله كإبراهيمَ:/ “يا نار اخجلي، كوني لإبراهيمَ

برداً وسلام!”/ ما أنا لولا صدى الأجراس إلا مومياء/ أترى لي منك، يا ميلاد، أنس أو عزاء؟/ *   *   * /  وعلى أجنحةِ اللّحنِ الوديع/ طرت لهفانَ إلى أرض السلام/ فتراءى لي سنا ضوءٍ كجرحٍ في الظلام/ يا إلهي! لم يكن نجماً ولا شمساً ولا بدرَ تمام/ ليس مما تتبنّاه ادعاءاتُ الحضارة/ قفّ شعري، غرغرت عينِيَ../ غصّت بالدموع/ إنّه طفلٌ وليدٌ في مغارة/ جنّتِ الأنجمُ لو تلثمُ خدّه/ وتدلَّى العرشُ كي يصبحَ مهده/ سأحيِّيه بسجدة!/ كيف لا أعبد روحَ الله في طفلٍ رضيعٍ يتكلّم؟/ أمه العذراءُ، نبع الطُّهر، مريم/ سعفُ النخل ارتمى في كفَّها البيضا شموع:/ “يا يسوع!/ أنا إنسانٌ، غريبُ الصنع، مبهم/ أنا طفلٌ مزَّقَ الحرمانُ قلبَه/ أنا روحٌ يتألم/ عرف الله محبَّة/ داوِني، فكَّ قيودي.. يا يسوع/ فحياتي كلها ضيمٌ وزيفٌ وتفاهة/ مع موسى قد بلوتُ اليمَّ، عانيتُ المتاهة/ فبنفسي لم يزل بعد متاهة!/ بين ضيقِ الجبِّ والسجنِ ذوي وردُ الحياة/ ورياحينُ الشبّاب/ يا زليخا.. لم أكن عندك قدّيساً/ ولكنّي جبان!/ في دمائي، آه لو تدرين، فيها أفعوان/ لم يكن يعرفه الصدِّيق.. آه!/ وبجوفِ الحوتِ قاسيتُ الدجى/ ذقتُ الهوان/ مثَّلوا بي واشتفَوا يومَ حُنَين/ وطوت باقي رفاتي كربلاء/ قبل أن أسطيعَ دفعَ السيفِ عن صدرِ الحسين/ ومساميرُ الصليب/ لم تزل أعقابُها في جبهتي والمعصمين/ لم تزل تَدمَى.. ومن لي بالطبيب؟/ آه، من لي بيدٍ تمسح أوجاعي؟/ وأبوابُ السماء/ أُغلِقت دون ابتهالاتي فلم أبرَحْ ضريحي/ رحمةً بي يا مسيحي/ فاتني، بل لم يكنْ لي فلكُ نوحِ/ مدّ لي كفَّك فالطوفانُ يرغي حول روحي!”/ *   *   * / وكرفَّاتِ مناديل اللقاء/ رفرفت أجنحةٌ خضراءُ حولي/ نسخت عن عالم البغضاء ظلي/ حملتني فوق ما يطمح روّاد الفضاء/ ودعاني الوهم فاستسلمت حتى/ خلت، بل أحسست روحي/ نسمةً تمرح ما شاء لها عرضُ السماء/ نفحةً من نفسَ الفردوس، من صدر المسيحِ/ طفلةً تحبو على وجه المساء/ تركت للطين ثوبَ الطين مُكمَدَّ القروح/ – فعلى متّكآتِ الشامِ آثارُ ضريحٍ/ كنته يوماً – وشقَّت دربَها عبرَ المدى/ عبرَ ضبابِ الأزمنة/ وعلى سابع نجمٍ في الثريَّا/ سمَّرت أهدابها حطَّت ونامت/ سنةً بعد سنة/ *   *   * / واحتواني صوتُها،/ صوتُ التي كانت رجائي/ دافئَ النبرةِ، غضّاً، كوثريا/ رفّ بالنعمى عَليّا/ قال: هيّا!/ – صوتها.. من أين؟/ بل أين أنا؟ أين الثريا؟!/ آه.. ما زلت هنا سهرانَ وحدي أتململ/ ورفوفُ الكتبِ البلهاء مثلي تتململ/ وعيونُ الليل حولي تتململ/ فتذكّرت أبي، أمي، وبعضَ الأصدقاء/ مات في أعينهم وجهي وما ماتوا لديَّه/ نارُهم تنبش أيّامي وتجتاح دمي دون انطفاء/ ويضيع العمرُ أوجاعاً وأوهاماً كلَيْلِ الشعراء/ وأنا أحملُ في قلبي عذابَ البشريّة/ وبعينيّ دموعَ الأنبياء…  (جامعة دمشق – 1961)

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى