رأس سنة تمشي على رأسها
رأس سنة تمشي على رأسها…” سطور كتبتها بدمشق في مثل هذه الأيام”
دأب الناس مع نهاية كلّ عام على اقتناء جديد الثياب ونفض و(تعزيل) بيوتهم فيمسحون عن الجدران والسقوف ما علق بها من غبار السنة، يلمّعون الخزف والبلّور ويعيدون ترتيب الأثاث واستبدال بعضه بالجديد رغبة في التفاؤل وهروباً من النحس والتطيّر.
لماذا لا نصنع في نفوسنا ما صنعناه في بيوتنا ؟.. كأن ننفض الغبار عن أرواحنا وننظّف ما تكلّس من مفاهيم في أدمغتنا ونستبدل ما تعطّل من أفكار في عقولنا ؟
أليس الأجدر بنا ترتيب ما يسكن فينا قبل ترتيب ما نسكن فيه ..؟!
شخصيّاً ليس لديّ ما أجرده وأحصيه رأس هذا العام غير شعرات بيضاء تختفي تحتها مفاهيم ومسلّمات شابت هي بدورها.
اسمحوا لي أن أعرّفكم إلى بيتي الجديد؛ بيتي الذي يسكنني بعد أن أعدت ترتيبه وتقسيمه دون الاستعانة بمعماريّ أو مهندس ديكور.
لنبدأ من الباب الذي حوّلته إلى شبّاك يؤمّه الأصدقاء وتعود إليّ منه الأفكار التي أطردها من الباب ورسمت إلى جانبه باباً وهميّاً نصف مفتوح يفضي إلى أفق رحب بعد أن كتبت عليه عبارة (لا تطرقوا بابي كلّ هذا الطرق إنّي لم أعد أسكن هنا).
-البلّور، جعلته مدخّناً: (فيمه) ولكن بالمقلوب… يشاهدني كل من في الخارج أمّا أنا فلا أرى أحداً.
-المخدّات والوسائد حشوتها بكتب تفسير الأحلام وأبراج العام من ابن سيرين إلى نجلاء قبّاني مروراً بسيغموند فرويد.
-الصالون، حوّلته إلى غرفة نوم لأنّ أغلب الأحاديث وحتّى التأمّلات تثير النعاس، أمّا جهاز التلفزيون فصار بلمسة من أناملي حوضاً للأسماك الملوّنة البريئة بعد أن تخلّصت من القط وأهديته إلى دائرة المطبوعات، أليس هذا أبهج من نشرات الأخبار.
-البرّاد: ملأته أفكاراً ومفاهيم لا تنفعني في الوقت الحاضر، قد أحتاج إليها لاحقاً… جلّ ما أخشاه أن تنقطع الكهرباء فتفسد أفكاري المجمّدة وتتعفّن ويكون مصيرها حاوية المهملات التي يبحث فقراء العالم المتحضّر عن عيشهم فيها.
-الحمّام قلبته إلى استوديو لتسجيل الأغاني ونسخها ثمّ بيعها في المحطّات الضاحكة على مستقبليها ومودّعيها.
-المطبخ: أفرغت كلّ علب وقطرميزات البهارات والمخلّلات والحشائش والأعشاب و وضعت بدل الكمّون فكرة مضادّة للنفخة اسمها التواضع وحب الناس، أمّا العلبة المخصّصة للفلفل الأسود الذي يثير التحسّس بشهادة الأطبّاء فقد ملأتها بخلطة اسمها المشاكسة كما أفرغت علبة الفلفل الأحمر وملأتها مصارحة و كذلك فعلت بعلبة الكاري فشحنتها سخرية والزهورات تأمّلاً والزعتر البرّي حريّة والسكّر نكاتاً والملح جديّة واللّوبان استخفافاً وحبّة البركة روحانيّة والقهوة شروداً والشاي استرخاء والزنجبيل فحولة والكركدي عذوبة والكراوية غرابة والميرميّة شعراً والسمسم تأنّقاً والتّابل عزماً والبخور مسرحاً.
مازلت أعرّفكم على بيتي الجديد في مطلع العام الجديد، هاهي السقيفة التي تعلو الحمّام –أقصد الاستديو – حرّرتها من خرداوات الأفكار البائدة، ذلك أنّي أعتقد بأنّ من يحتفظ بالخرداوات كمن يحتفظ بخاتم زواجه بعد طلاقه (أعرف صديقاً يعادي الزواج لأنّ أصابعه تتحسّس من المعادن)، هذه العبارة وضعتها في السقيفة العتيدة ووضعت إلى جانبها فراشاً مريحاً… قد أحتاجه ذات يوم حانق .
المكتبة: فعلت فيها ما فعلته للباب، شكّلت بالجبصين والألوان مكتبة وهميّة وفعلت ما لم يفعله حديثو النعمة: كتبت على كعبيات الكتب المفترضة كلّ العناوين التي صدرت وسوف تصدر- المسموح منها والممنوع – أليس هذا أريح لي وللكتّاب والناشرين والزوّار…؟ّ!
الصوبيا: ملأت طابتها بالأفكار الرنّانة والجمل المنتفخة والشعارات الثقيلة وجلست إليها أشوي أحلامي بدل الكستناء، أنشّف جواربي وأتحسّر على صيف كنت أمشي فيه حافيا في حذائي.
الشيء الوحيد الذي لم أغيّره ولم أفرغه من ظهر بيتي هو خزّان الماء فأنا من مواليد برج الحوت وللحيتان آذان كما تعلمون، لكنّي أفكّر في خزّانات إضافيّة أخرى لسوائل أخرى، فما أتعس أن يفتح الواحد حنفيّته ذات صباح فتشخر في وجهه وتنفث هواء مثل حيّة .
هكذا دأبت على تغيير عفش رأسي كلّ رأس عام وألقي بالعفش القديم من نافذة بيتي- عفواً من بابها- كما يفعل بعض الأوروبيين في مثل هذه الأيّام. أذكر عندما كنت طالباً في بلد اوروبي، وقفت تحت أحد الشبابيك في مثل هذه الأيّام … وسقط فوق رأسي طقم أسنان لامرأة عجوز غيّرت من (غرفة سفرتها).