راديو الحب
راديو الحب… ليس من قبيل المصادفة أن يسبق اليوم العالمي للراديو عيد الحب بيوم واحد، في علاقة تزامن وتكامل، وكأن الأذن تعشق قبل العين دائما، وليس أحيانا، كما يزعم الشاعر الضرير بشار بن برد.
ولعل أروع وأجمل ما عبرت عنه هذه العلاقة بين القلب وجهاز الراديو هو برنامج “ما يطلبه المستمعون” الذي كان يضرب موعدا ثابتا مع العشاق والمتيمين والمشتاقين في مختلف البلدات والقرى النائية والأرياف القصية.
كان الراديو صندوق بريد يفوح رسائل شوق عبر الأثير، تحملها أغاني يشترك في حل شفراتها وفك رموزها عشاق ومحبون من مختلف المشارب والفئات والجهات.
يودع هؤلاء العشاق لهفتهم إلى جهاز يتحلق حوله جميع أفراد الأسرة بل سكان القرية أحيانا وهم يستمعون إلى ما يمكن أن يصلهم من مشاعر أرسلها أصحابها على شكل أنغام، بدءا من العاملين المغتربين عن ديارهم، مرورا بالمجندين في ثكناتهم البعيدة، وأهالي المرضى وهو على أسرتهم في المستشفيات، ووصولا حتى إلى عشاق الحي الواحد والقرية الواحدة الذين يلمحون حبيباتهم أو خطيباتهم كل يوم عند الحقل أو النبع أو باب المعمل، ومع ذلك، يصرّون على إعلان حبهم عبر الأثير.
هو صندوق سحري ناطق، يكبر ويصغر حجمه بحسب “وجاهة” أصحابه، فهو يحتل صدر البيت بالنسبة للعائلات الميسورة، يعتلي الرفوف الموقرة في المقاهي ويختبئ في جيوب العشاق والرعاة والمختلين بأنفسهم وأبناء السبيل.
صندوق البريد هذا تحاول أن تصادره اليوم، مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، لكنه حافظ على خصوصيته وجاذبيته ضمن الثورة الرقمية نفسها بل زاد الإقبال عليه لدى سائقي السيارات وكذلك المترجلين وهم مدججون بسماعاتهم في الحدائق والشوارع والمقاهي.
ما افتقده جهاز الراديو في أيامنا هو أنه لم يعد صديقا كتوما للعشاق والمحبين، ولم يعد هؤلاء يملون عليه بريدهم كما كان يفعل نظراؤهم في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
لقد انفضوا من حول “المذياع” كما يحلو لمجامع اللغة العربية تسميته، وتركوه لأخبار المستجدات السياسية والاجتماعية والأغنيات السريعة السائرة على إيقاع العصر، أما العشق فلم يعد محتاجا إلى تحميله ضمن أسطوانات تبرمج سلفا وتنتظر من يودعها أشواقه مثل سيارة “البوسطة ” التي كانت تنقل الركاب والبريد والأمتعة دفعة واحدة، وفي سفرة واحدة.
التشاركية هي أهم ما يميز جهاز الراديو الذي يشبه بدوره حافلة البوسطة التي تقل الجميع نحو وجهة واحدة دون أن تميز راكب على آخر.. وهو ما يجمع بين العشاق الذين تضمحل وتنعدم عندهم الفوارق الطبقية والثقافية والاجتماعية، فلا فرق بين عاشق وعاشق إلا بالسهر والسهاد.
ولكم اشترك عاشق من الخاصة مع آخر من العامة في أغنية واحدة، واستمعا إليها من نفس التردد الأثيري، وبصوت نفس المذيع.. إنها العلاقة الأزلية بين الحب والفن.