كتب

روبرت فالزر الكاتب الذي يذهب إلى عمله ومعه مخرطة

في عام 1905 وصل الكاتب السويسري الشاب روبرت ڤالزر إلى برلين لينضم إلى شقيقه الأكبر الرسام ومصمم مناظر بالمسرح كارل فالزر، وعقب وصوله ألقى بنفسه على الفور في الحياة الاجتماعية والثقافية النابضة بالحياة للمدينة، آملا في تحقيق حضور أدبي قوي من خلال تجمعات المثقفين والحصول على الناشر المناسب الذي ينشر أعماله، وقبل كل شيء الجمهور المتحمس؟ وبالفعل نشر أكثر من رواية ومجموعة من القصص، لكن تجمعات الفنانين والكتاب والمثقفين في برلين لم ترُق له وتسببت له في اكتئاب، مما اضطره إلى العود إلى سويسرا في عام 1912.

وتشكل هذه المجموعة التي ترجمها الراحل خليل كلفت وصدرت عن دار النسيم للنشر بعنوان “البرلينية الصغيرة” رؤيته لبرلين قبيل بدء الحرب العالمية الأولى، حيث يجمع في قصصها ملاحظاته الاحتفالية الساخرة عن حيوات العاصمة الألمانية الصاخبة، من المسارح والملاهي وصالات الرسامين والصالونات الأدبية، إلى حركة عابري شوارع العاصمة والأسواق ومطاعم الخدمة السريعة وركاب الترام الكهربائي.

ظهرت القصص في الأصل في المجلات الأدبية بالإضافة إلى الأقسام الأدبية في الصحف، وتتميز بإلحاح مفرح وشغف غير تقليدي لتجليات مدينة نابضة بالحياة وتغوص يوما بعد الآخر في الحداثة. تتخذ قصصها المتلاحقة شكل تأملات شخصية لصخب المدينة المتسارع وما يضطرم داخلها من تفاعلات اجتماعية وثقافية. لذا فهي تحفل بالصور والمشاهد والنقوش القصيرة التي تتميز بالوضوح، كاشفة عن مدينة تظهر بطريقة أو بأخرى، كلص، كديكور، كعملاقة تهز أقفالها.

ويُعد ڤالزر (15 أپريل 1878 – 25 ديسمبر 1956) من كُتّاب اللغة الألمانية المهمّين في هذا القرن. وقد برز بفضل رواياته الأربع التي نجت من الضياع، منها رواية “ياكوب فون جونتن”، وكذلك بفضل كتاباته النثريّة القصيرة، التي لا تعوق الحبكة موسيقية كتابتها أو تدفُّقها الحرّ إلا بدرجة أقلّ. وأنتج الشاعر الإنجليزي كريستوفر ميدلتون ترجمات رائعة كما يقول النقاد لكثير من قصصه وكتاباته النثرية القصيرة إلى جانب روايته “ياكوب فون جونتن” وعمل على مدى سنوات طويلة على جعل ڤالزر معروفًا لدى قراء اللغة الإنجليزية.

وڤالزر في كتاباته النثرية الطويلة كما في كتاباته النثرية القصيرة رسّام صورة مُنَمْنَمَة، يعلن مطالب غير البطولي، المحدود، المتواضع، الصغير؛ وكأنما كان ذلك استجابة لشعوره الحادّ باللامتناهي. وتصور حياة ڤالزر أوضح تصوير قلق نوع من المزاج المكتئب: كان لديه افتتان المكتئب بالركود الدموي، وبالطريقة التي ينتفخ بها الزمان وينقضي، وقد قضى جانبا كبيرا من حياته يحوّل الزمان -وقد استبدّ به الهاجس- إلى مكان: جَوْلاته ـ ويداعب إنتاجه الرؤية المروّعة عن اللانهائيّة لدى المكتئب: إنه كلّه صوت ـ وهو يفكرّ بصوت مرتفع، ويتحادث، وينتقل من موضوع، إلى موضوع ويواصل الحديث عن موضوع بعينه. وتُستعاد ما هو هام بوصفه ضربا من ضروب ما هو غير هام، وتُستعاد الحكمة بوصفها نوعا من الثرثرة الجريئة، الخجولة.

يقول فالزر عن كتابته ” أنا نوع من الروائي الحرفي. ولا شك في أنني لستُ كاتب حكايات قصيرة. وعندما أكون متعاطفا، أي عندما أحمل مشاعر طيّبة، فإنني أخيط أو أرصف أو ألحم أو أسوِّي بالفارة أو أقرع أو أطرق أو أثبّت بالمسمار: سطورًا يفهم الناس محتواها في الحال. وإنْ شئتَ أمكنك أن تصفني بالكاتب الذي يذهب إلى عمله ومعه مخرطة. وكتابتي عبارة عن لصق ورق حائط. سيغامر قليل من الأشخاص العطوفين بأن يَعُدُّوني شاعرًا، الأمر الذي يدعوني التسامح وآداب السلوك إلى التسليم به. وقِطَعِي النثرية لا تزيد ولا تنقص -في نظري- عن كونها أجزاء من قصة واقعيّة طويلة بلا حبكة، والاسكتشات التي أُنتجها من حين لآخر هي فصول قصيرة بعض الشيء أو طويلة بعض الشيء من رواية. والرواية التي أكتبها بلا انقطاع هي دائمًا نفس الرواية. ويمكن وصفها بأنها كتاب عن نفسي تمّ تقطيعه إلى شرائح أو تمزيقه إلى أجزاء بأشكال شتىّ”.

ويرى هرمان هيسّه “لو كان لدى فالزر مائة ألف قارئ لغدا العالم مكانًا أفضل”. وقد أعجب به كثيرون من كبار كتاب اللغة الألمانية وكان تأثيره قويًّا بصورة خاصة على كافكا الذي نظر إليه بعضهم في بداية الأمر على أنه حالة خاصة من روبرت ڤالزر.

ويكشف دبليو جي سيبالد في مقال له عن سيرة فالزر “لم يكن ڤالزر قادرًا على الاستقرار في أي مكان، ولم يحصل قط على أقل شيء؛ لم يكن لديه منزل، ولا مسكن ثابت، ولا قطعة أثاث واحدة، وفيما يتعلق بالملابس، بدلة واحدة جيدة على الأكثر وأخرى أقل من ذلك. أعتقد أنه لم يكن يمتلك حتى الكتب التي كتبها”. تساءل سيبالد “كيف يمكن للمرء أن يفهم مؤلفًا كان محاطًا بالظلال؟ الذي ابتكر رسومات فكاهية من اليأس الخالص، والذي كتب دائمًا نفس الشيء ولم يكرر نفسه أبدًا، والذي يميل نثره إلى التلاشي في القراءة، حتى لا يتذكر المرء إلا بعد بضع ساعات بالكاد الأرقام والأحداث والأشياء سريعة الزوال التي تحدث عنها”.

مقتطف من قصة البرلينية الصغيرة

لا، لا أريد أن أعيش بصورة دائمة في أي مكان سوى برلين. هل يعيش الأطفال في المدن الصغيرة، المدن التي هي قديمة وخربة، حياة أفضل بحال من الأحوال؟ بالطبع تُوجد في هذه الأماكن بعض الأشياء التي لا توجد لدينا. أشياء رومانسية؟ أعتقد أنني لستُ مخطئة حين أهتمُّ بشيء نصف حي بالكاد كالشيء الرومانسي. الناقص، المقوَّض، السقيم؛ جدار مدينة عتيقة مثلا. كل ما هو عديم الفائدة لكنه جميل بصورة مبهمة – هذا هو الرومانسي. وأنا أحبُّ أن أحلم بمثل هذه الأشياء، وحسب تصوُّري فإن الحلم بها كافٍ. وأخيرًا فالشيء الأكثر رومانسية هو القلب، وكل شخص حساس يحمل في داخله مدنًا قديمة مُحاطة بجدران عتيقة. أما مدينتنا برلين فسوف تنفجر عما قريب من فرط الحداثة. ويقول أبي إن كل شيء فذٍّ من الناحية التاريخية هنا سوف يختفي، ولن يعرف أحد برلين القديمة بعد ذلك. وأبي يعرف كل شيء أو على الأقل كل شيء تقريبًا. وتستفيد ابنته من هذه الناحية بالطبع. نعم، قد تكون المدن الصغيرة المنتشرة في قلب الريف لطيفة حقا. وقد تكون هناك مخابئ سرية ساحرة يمكن اللعب فيها، وكهوف يمكن الزحف إلى داخلها، ومُرُوج، وحقول، وعلى بُعْدِ خُطًى قليلة منها فحسب: الغابة. مثل تلك القرى تبدو مكلَّلة بالخضرة، ولكن برلين فيها قَصْرٌ من الجليد يمكن للناس أن يتزحلقوا فيه في أشد أيام الصيف حرارة. وبرلين، ببساطة، تتقدم درجة على كل المدن الألمانية الأخرى، من جميع النواحي. إنها أنظف وأحدث مدينة في العالم. مَنْ الذي يقول هذا؟ حسنًا، بابا طبعًا. كم هو طيب، حقا! عليّ أن أتعلَّم منه الكثير. لقد تغلبتْ شوارع مدينتنا برلين على كل قذارة وعلى كل النتؤات. فهي ناعمة كالجليد وهي تلمع مثل الأرضيات الملمَّعة بدِقَّة المُوَسْوِس. وفي الوقت الحاضر يرى المرء أشخاصًا قليلين يتزحلقون على الأرض دون جليد. ومَنْ يدري، فربما أجد نفسي أفعل ذلك، بدوري، ذات يوم، إذا لم يكن قد أصبح موضة قديمة فعلًا. توجد هنا موضات لا تكاد تجد وقتًا لتصبح شائعة بمعنى الكلمة. وفي العام الماضي لعب كل الأطفال وكذلك كثير من الكبار، لعبة الشيطان. والآن أصبحت هذه اللعبة موضة قديمة، ولا أحد يرغب في أن يلعبها. وعلى هذا النحو يتغير كل شيء. وبرلين تحدِّد الموضة دائمًا. ولا أحد مُجْبَر على محاكاتها، غير أن “فراو” (السيدة) محاكاة هي الحاكم العظيم والمجيد لهذه الحياة. الجميع يُحاكون.

وبمقدور بابا أن يكون جذابًا؛ والواقع أنه لطيف دائمًا، غير أنه من حين لآخر يصبح غاضبًا بسبب شيء ما – ولا أحد يدري مطلقًا ما هو – وحينئذ يكون قبيحًا. ويمكنني أن أرى فيه كيف يجعل الغضبُ الخفي – شأنه شأن السخط تمامًا – الناس قبيحين. وإذا لم يكن بابا طيِّب المزاج، أشعر أنني مرتعبة مثل كلب مضروب بالسوط، ولهذا ينبغي أن يتجنب بابا إظهار ضيقه وسخطه لمن يخالطونه، حتى إذا كان هؤلاء عبارة عن ابنة واحدة فحسب. في هذه النقطة، أجل في هذه النقطة على وجه التحديد، يقترف الآباء الخطايا. وأنا أدرك ذلك بشدة. لكنْ مَنْ ذا الذي يخلو من نقاط ضعف – حتى من نقطة ضعف واحدة، حتى من عيب ما ضئيل؟ مَنْ ذا الذي بدون خطيئة؟ إن الآباء والأمهات الذين لا يعتبرون أن من الضروري أن يحتفظوا لأنفسهم بعواصفهم الشخصية بعيدًا عن أطفالهم إنما يهبطون بهم إلى مرتبة العبيد في لمح البصر. ينبغي على الأب أن يتغلب على طباعه السيئة بمفرده – لكنْ ما أصعب ذلك! – أو ينبغي عليه أن يذهب بها إلى غرباء. وأي ابنة هي سيدة صغيرة، وفي كل أب مهذب لا بد أن يوجد فارس. وأنا أقول بصراحة: الحياة مع الأب مثل الفردوس، وإذا اكتشفتُ عيبًا فيه، فلا شك في أنه عيبٌ انتقل منه إليّ، وبالتالي فإن حذره، وليس حذري، هو ما يراقبه عن كثب. غير أن بابا قد ينفِّس عن غضبه، بالطبع، بطريقة ملائمة على حساب أشخاص عالَةٍ عليه من بعض النواحي. وهناك ما يكفي من مثل هؤلاء الأشخاص الذين يذهبون ويجيئون حوله.

ولدي غرفتى الخاصة بي، وأثاثي، وكماليّاتي، وكُتُبي، إلخ.، يا إلهي، إن أبي يعُولني في الواقع بأفضل صورة ممكنة. هل أنا شاكرة لبابا على كل هذا؟ أي سؤال لا طعم له! إنني مُطيعة له، ثم إنني مَلِكَةٌ أيضًا، ويمكنه، في التحليل الأخير، أن يكون فخورًا بي حقا. وأنا أسبِّب له المتاعب، وأنا شغله المالي الشاغل، وقد يعضُّني، وأنا أجد دائمًا نوعًا ما من الواجب اللذيذ في أن أسخر منه عندما يعضُّني. وبابا يحبُّ العضّ، فهو يتصف بروح الدعابة وهو، في نفس الوقت ذاته، مُفْعَمٌ بالحيوية. وفي الكريسماس يغمرني بالهدايا. وبالمناسبة، فقد صمَّم أثاثي فنانٌ من الصعب أن يكون مجهولًا. ويتعامل أبي على وجه الحصر تقريبًا مع أشخاص لهم اسم إلى حدٍّ ما. إنه يتعامل مع الأسماء. وإذا كان يختبئ في اسم من تلك الأسماء إنسانٌ أيضًا، يكون ذلك أفضل بكثير. وكم يكون مفزعًا أن يعرف المرء أن شخصًا ما شهيرٌ ويشعر أنه لا يستحق تلك الشهرة على الإطلاق. ويمكنني أن أتخيل كثيرين من هؤلاء الأشخاص المشهورين. ألا تشبه مثل هذه الشهرة مرضًا عُضالًا؟ يا إلهي، أي طريقة أعبِّر بها عن نفسي! وأثاثي مطلي باللون الأبيض ومزخرف بالأزهار والفواكه على يد خبير بالفن. وقِطَع أثاثي ساحرة والفنان الذي زخرفها شخص رائع، ويقدِّره أبي تقديرًا عاليًا. وأي شخص يقدره أبي جديرٌ بالإطراء حقًا. أعني أنه يساوي الكثير أن يكون بابا عاطفًا على شخص ما، وأن أولئك الذين لا يجدون الأمر كذلك، ويتصرفون كأنهم لا يبالون بشيء، لا يُلحقون الأذى إلا بأنفسهم. إنهم لا يرون العالم بما يكفي من الوضوح. وأنا أعُدُّ أبي رجلًا رائعًا بكل معنى الكلمة؛ أمَّا أنه يستخدم نفوذه في العالم فهذا بديهي. – كثير من كُتُبي يشعرني بالضجر. غير أنها بالتالي ليست الكُتُب الملائمة ببساطة، مثل ما يسمى بكتب الأطفال، على سبيل المثال. ومثل هذه الكُتُب تشكل إهانة. هل يجرؤ المرء على أن يعطي الأطفال كُتُبًا ليقرأوها وهي لا تتجاوز آفاقهم؟ لا ينبغي أن يتحدث المرء إلى الأطفال بطريقة طفولية، هذه صبيانية. وأنا، أنا التي ما زلتُ طفلة، أكره الصبيانية.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى