سياحة “الحرقة”
سياحة “الحرقة”…. تناقلت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي في تونس صورة فتاة عشرينية على قدر كبير من الجمال والأناقة وهي على متن إحدى قوارب الهجرة السرية إلى إيطاليا، مشيرة إلى أن هذه الفتاة تمتلك عدد متابعين على أنستغرام بلغ 200 ألف، وتعيش حياة كريمة بين أهلها، فما الذي يدفع شبابا من تونس بهذا العمر و بهذا المستوى من المعيشة إلى “الحرقة” و الارتماء في أحضان الموت؟
وللتذكير فإن ” الحرقة” ـ حاشاكم ـ تعني في القاموس الشعبي التونسي المتداول، عملية ركوب المراكب المتهالكة سرا نحو الجزر الإيطالية القريبة، يؤمّنها مهربون متخصصون مقابل مبلغ من المال للرأس الواحد، وقد يتطلب أشهرا من العمل المضني لتحصيله.. وأحيانا يبذل كل هذا العمل في سبيل العيش عاطلا عن العمل في إيطاليا.
أما بالنسبة لهذه الفتاة الميسورة التي وثقت “الحرقة”،عبر فيديوهات تظهر رحلتها المشوبة بالمخاطر، من “قلب الحدث”، فإن من الواضح أن المبلغ الذي تتطلبه عملية ” الحرقة” في المتناول ومقدور عليه، مهما بدا مكلفا وعسيرا بالنسبة لرفاقها الشبان على ظهر المركب نفسه.
إن كانت هذه الفتاة من صيادي النجومية على السوشل ميديا أو من هواة المغامرة لأجل المغامرة فإنّ ما أقدمت عليه ـ في نظري ـ يُعدّ تهوّرا بل وفي عمقه، ضرب من الاستهتار بنعمة ما هي عليه من رغد العيش، وكذلك فهو من ناحية أخرى، استخفاف بحياة أولئك الذين يتقاسمون معها نفس المركب ولكن ليس نفس الأحلام والهموم طبعا.
أمّا إذا كانت هذه الفتاة التي تبدو في صورها منطلقة كفراشة، تريد فعلا، العمل والاستقرار في أوروبا فالمصيبة أعظم، بل ويمثل ذلك الجنون بعينه.
أول تجليات هذه العبثية هو أنه بإمكانها الحصول على تأشيرة نظامية لمجرد الاستظهار بحساب مصرفي أو سندات ملكية وما شابهها. أمّا أغربها فهو إصرارها على ركوب الأهوال ومعايشة المشقات في الوقت الذي بإمكانها أن تعيش معززة مكرمة تحت شمس بلادها التي يحسدها عليها سكان الشمال الأوروبي.
لا أبالغ إن أخبرتكم أني شاهدت بأم عيني وعلى “عين المكان” في إيطاليا شبانا من عائلات تمتلك أراضي زراعية شاسعة في تونس، يعملون في ظروف مزرية وبأجور زهيدة إن وجدوا لهم عملا أصلا، ويفترشون الكراتين في أماكن غير صالحة للسكن البشري.
ترى، ما سر هدا الهوس بالعيش في أوروبا كأن النعيم هناك والجحيم هنا؟ لم تقنعني أي إجابة مهما كان حجم الضائقة المالية والاجتماعية.
قد يبدو الأمر مقنعا لو صدر من طرف شباب تتهددهم المجاعات أو الأوبئة أوالحروب.. لكن من يعرف تونس جيدا، سيوعز الأمر إلى أسباب نفسانية ثقافية.. وقد تكون جينية.. من يدري؟