شارع بورقيبة لم يغير من عنوانه
أدركت منذ يومين، أن شارع الحبيب بورقيبة في تونس متعدد الاستعمالات..
إنه يصلح للتجوال والمشي والتسوق والتسكع، كما يصلح للتظاهر والهرولة والهتاف والترنح. واستنشاق عبير الزهور بين الأكشاك المتخصصة أو الغازات “المسيلة للدماع” بين الدوريات البوليسية كما يقول أحد الوزراء الفرنكفونيين.
هو أطول شوارع تونس في المسافتين الزمنية والمكانية، لكنه يختصر المساحة الفاصلة بين تمثالي الحبيب بورقيبة وعبدالرحمن بن خلدون.
كل ما جرى في تاريخ البلاد الحديث. ويكاد يكون كتابا يفتح دفتيه بين رجلين من البرونز. وهو كتاب سميك الصفحات، عريض الحاشية ومفتوح على كل أشكال التدقيق والتحقيق والتأويل.
ما يثير الاستغراب
استمعت إلى مكبرات صوت تصدح بأغان ثورية أو سياسية أو ملتزمة.. سموها ما شئتم، لكن ما أثار دهشتي واستغرابي أنها تنبعث من حناجر شابة لم تعاصر ولم تجايل يوما من الأموات والأحياء، المصري شيخ إمام. ولا اللبناني أحمد قعبور أو الفلسطيني مصطفى كرد أو التونسي الهادي قلّة.. ولا حتى الفرنسي ليو فيريه.
كانوا شبانا وفتيات بمنتهى مواكبتهم للعصر في قصات الشعر والهيئة والثياب. تلبس جماعة منهم تيشيرتات غيفارا وكوفيات فلسطين فوق زنود وصدور موشومة برسومات ناطقة بالأنكليزية والفرنسية وهم يحملون القيثارات و يرتدون بناطيل الجينز المخزّق فوق الركب.
يستظل جميع هؤلاء بتمثالي “سي الحبيب” و”عبدالرحمن” في هذا الشارع الأعجوبة. يغنون للحرية وينتفضون لأجل المزيد منها، ويمحون الفارق التاريخي بين صاحب “المقدمة” كأول مؤسس لعلم الاجتماع في التاريخ، وواضع “قانون الأحوال الشخصية” الطامح لبلاد مدنية تواكب العصر وتريد الالتحاق بركب الأمم المتقدمة.
خاطئ من يسيء الظن بهؤلاء الفتية والفتيات. ويتهمهم بالميوعة والتقاعس والتنكر لقضايا البلاد. حتى هذه الشعور المنسابة فوق أكتافهم والأقراط التي تزين آذانهم، والعبارات الغريبة التي يوشحون بها أحاديثهم. لم تبعدهم عن جادة الصواب، وزادت من حبهم لبلاد يجددون الانتماء إليها بعد كل حالة اغتراب.
كنت أظن أن شارع بورقيبة قال كلمته منذ ما يزيد عن عقد من الزمن ثم انبرى للتثاؤب والملل وارتداء كمامات كورونا واللامبالاة.
وإذ به يجدد العهد على التجدد. ويعيد العصافير إلى أشجاره والخطوات إلى أقدام عشاقه من المترنحين والمتعثرين والمعتقدين بأن أغاني الشيخ إمام قد ولت إلى غير رجعة.
ليس الأمر حديثا في السياسة. ولا مناصرة فريق ضد آخر في بلاد تهاجمها أكثر من جائحة صحية واقتصادية واجتماعية.
لكنه توقف عند فئة عمرية طالما ظلمها مدعو النضج السياسي والثقافي، ونسوا أن الأصوات لا ترحل بل تغير من حناجرها في كل مرة.