شامخ كالألف
شامخ كالألف ..إلى الذين يغارون على لغة موليير دون أن يتقنوها، ويسخرون من لغة المتنبي دون أن يفقهوها:
نحن الذين نكتب عكس عقارب الساعة وباتجاه دوران الأرض، لا يدرك قسم كبير منا سحر هذا الخط المتدفق من اليمين إلى اليسار كجوقة شرفية متناهية في الأناقة والانسجام , كنهر من الصلوات ,ألم يقل أحدهم: إن الخط عبادة.
كان الخطاطون القدماء يتوضّئون قبل أن يمسكوا المداد ويبسملون عندما يعمّدون ريشتهم في الحبر ويتوجهون بالشكر والدعاء بعد إتمام مهماتهم… ثم يدفنون جثث أقلامهم وبقايا معداتهم تحت التراب في طقس يليق بآية “إقرأ”).
كان لكل شيخ خطاط طريقته في تحضير الحبر الذي تفوح منه روائح العسل والصنوبر والخزامى ضمن تركيبة خاصة لا يعلمها إلا أقرب مريديه ,بل أن لكل رسالة عطرها ومذاقها ,لونها ونوعها وهيئة حاملها – وإن كان حماما زاجلا -فمخاطبة أهل الجاهة والسلطان ليست كمخاطبة العامة والدهماء أو المعشوق أو الصديق أو القريب..
قلم سادس ذو حفيف, له رقّة القصب وحنينه ,وأصابع طرّاها العشق, تقطر حروفا فوق ورق يختصر البراري ويغالب الفناء.
عصا المايسترو هي أنفاس الخطاط تتمدد وتضيق مع كل همزة قطع أو وصل, نقطة أوفاصلة, حركة أو سكون, شدة وضمة وفتحة ثم كسرة…
للديواني مقام الحجاز وللكوفي النهوند وللقيرواني البيّات وللفارسي العجم وللرقعي مقام السيكا.
تأخذ الحروف العربية التي رتبها الخليل بن أحمد في كتاب (العين)من الحلق إلى الشفتين وتقارب عدد الأيام القمرية. تأخذ تشكيلات وتأويلات فلسفية وصوفية لا حدود لها لدى العامة والنخبة, فللألف الصولجان طول الصولجان ورشاقته وعنفوانه أمّا الهمزة فتحط فوقه كعصفور تائه وللنون سحر ورنّة خاصة(نون النسوة)وهي من الأحرف الممدوحة في القرآن (نون والقلم وما يسطرون)وقد قال أحدهم: يداي إلى السماء ورأسي بينهما وأصرخ ك(نون) ثم أتكوم حول نفسي ك(هاء)أما الواو فللمعية وهي الحرف المسافر والوحيد الذي يعني ويعي نفسه وبقيت الضاد تميّز الذين يفاخرون بنطقها كرمز للصلابة,قال المتنبي يصف درعا:
لامة فاضة أضاة دلاص أحكمت نسجها يدا داوود..
كما عمل الذواقة على تناغم وانسجام الحروف في المنطوق والمكتوب وقاربوا بين المسموع والمنظور فجعلوا أناقة الورق من أناقة اللسان مبتعدين عن النشاز كتجاور بعض الأحرف الثقيلة في قول أحدهم:
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر..
أحجام الحروف وأبعادها لا تدرس ولا تقاس بالمسطرة وإنما بعين القلب وعادة ما يرتجل الخطاط ليطل بروحه وأسلوبه ولكن دون نشاز أو خروج عن المقام .
إنه فن العزف بالحروف والرقص و الإنشاد مع الحروف, الجمع بين أكثر من لون سمعي وبصري في ذات الوقت أي الكوريغراف والكورغراف والفونوغراف لبعض الذين يحبذون تداول المصطلحات اللاتينية الحديثة بصفة سطحية واستعراضية.
ليس الأمر استعراضا لثقافة تراثية جفت وتكلست وأصبحت مأدبة للفئران في أقبية المكتبات القديمة وإنما تذكير لمن يجهل ثم يعادي التراث باسم الحداثة بأن الكتابة بالإبهام عبر الموبايل أو العزف أمام( الكيبورد) لا ينبغي أن تنسينا الإحساس بالحرف الذي كان يكتب بتأن وإحساس عميقين بالمعنى والمبنى .
المشكلة أن الكثير منا يعتقد أن الحداثة هي مفرداتها كأن يقول لك التلفزيونيون هذا مسلسل (موديرن) أي يعج بأحدث أنواع السيارات والكمبيوترات والموبايلات في حين أن قصته-إن كان لديه قصة-تمجّد الثأر و تعدّد الزوجات .
إن حالنا أصبحت كمن يأكل الكسكسي بالشوكة والسكين .
أّما عشاق (القدامة)والمستشرسون في الدفاع عن تركة الأجداد فهم كحال من يتناول السلطة وقطعة الستيك بكلتي يديه..
التراث والحداثة :.. ليس هناك أروع من أن يطير الواحد ويحلّق بهذين الجناحين رغم كل ما يقال في هذه الثنائية الشائكة ,لكن من الناس من لا يملك القدرة على التواصل لا مع الجدّ ولا مع الحفيد , وقد ذكّرني هذا بما يشبه (الكلاّج) الروائي لأحد المعقدين من بيئته والحاقدين على أبناء جيله من المطلعين على الثقافات الأجنبية فجاء كتابه تصفية لحسابات ضيّقة وانتقاما يفضح انعدام موهبته التي استعاض عنها بالشتائم.
كلمة في الزحام :
إن من يتعلم العربية من اليمين إلى اليسار واللغات الأوروبية من اليسار إلى اليمين سيتعلم حتما كيف يحب الناس دونما اتجاه.