كتب

صورة الإنسان والحرب في قصص سهيل الذيب الجديدة

خاص :

اختلطت المأساة بالكوميديا في قصص الكاتب الروائي سهيل الذيب الصادرة عن دار توتول بعنوان (العودة من الآخرة)، وإذا كانت الكوميديا تحمل في ثناياها عمق المأساة، فإن المأساة، لمن يدقق في التفاصيل الواردة في القصص، هي موضوع الحرب بشكل أو بآخر، موضوع الحرب وغربة الإنسان في حياته أو موته ، تختلط فيها الوقائع في عملية تخييل جذابة تضيف للقصة السورية شيئاً جديداً .

يلخص الكاتب سهيل الذيب الفكرة كلها في قصة قصيرة حملت عنوان (فزاعة وشهيد)، يعود فيها إلى نكسة حزيران عام 1967 عندما نشبت الحرب مع إسرائيل، فانهزم العرب، وضاعت سيناء والجولان والقدس .

والجميل في فكرة هذه القصة، أنها تربط بين الهزيمة وحال العرب بخيط سحري، فالفتى، الذي تتحدث عنه القصة، يعيش المراحل كلها، فهو يتذكر الصراع المستعر بين أهل قريته بسبب صنبور الماء الوحيد، وكأنهم مشغولون عن خطط عدوهم بصراعات داخلية، وعندما تحدث الهزيمة، تقطع إسرائيل المياه عن صنبور الماء وتقوم بإذلال السكان.

وعندما تأتي حرب تشرين نجد الفتى، وقد أفرحه النصر، ثم نراه وقد تضامن مع انتفاضة الجولان ضد محاولات إسرائيل فرض الهوية الإسرائيلية عليهم ، فإذا الفتى معهم يقاوم الهوية ويتمسك بالأرض.

إلى هنا، والمسألة السردية المختصرة، تبدو مجرد محرك للوجدان الوطني، لكن النهاية المفجعة تصدم القارئ، فالفتى الذي أصبح في سياق هذه السردية عجوزاً يتكئ على عكازه، نجده وقد رماها وأخذ يزحف على أربع ، لكنه لا يتخلى عن بندقية الصيد التي يريد من خلالها مقاومة أعدائه.

ما الذي جرى في هذه القفلة الغرائبية؟

إن مالم يخطر على باله أن العدو تسلل خلسة إلى (الداخل)، (متكلماً اللغة نفسها)، (مصلياً الصلاة ذاتها) ، وعندما يصوب بندقيته إلى أحدهم ” عالجوه بسواطيرهم ليقطعوا رأسه ويعلقوه فوق فزاعة الكرم شاهداً وشاهدة مدى الزمن ” ص 86

ما الذي فعله الكاتب سهيل الذيب في هذه العجالة القصصية؟

إن هذا التكثيف الفتان لمراحل مأساة الإنسان السوري ينعكس في قصة أخرى بعنوان (بين الحلم واليقظة)، في مقاربة لحظة أخرى من الحرب، عندما يحكي لنا عن نشاط ثقافي في أحد أيام الحرب المستعرة، وهنا يستخدم الأسماء الحقيقية لكاتبين ممن شاركوا في ذلك النشاط، فإذا بالكاتب الشهيد علي العبد الله بطلاً للقصة، وإذا بالكاتب المسرحي الجريح محمد الحفري شاهداً عليها، لكن بطولة القصة ووجود الشاهد لم يمنعه من التخييل بأداء رائع، فالكُتّاب يُدْعون إلى نشاط ثقافي وسط قلة الجمهور ولا مبالاته ، ثم يمنح كل كاتب ألف ليرة، وما أن يقبض الكاتب الشهيد علي العبد الله هذا المبلغ البسيط حتى يتلقى اتصالا من زوجته تخبره فيه بأن يشتري بالمكافأة خبزاً وفلافل لأطفاله !

ثم لاحظوا هذه النهاية المأساوية عندما تسقط القذيفة ويصاب الجميع ويستشهد علي العبد الله : “لم يعد يعتلي المنبر، أو يسمع صوت الرصاص ، ولم يعد يشتري خبزاً، ولا دفاتر للأولاد، لكن ضحكته الساخرة المرة بقيت تجلجل في السماء” ص61 .

هذا النوع من الاتكاء على التفاصيل، نجده في أكثر من قصة، فعندما نقرأ قصة (أم مرعي) نتعرف على عادل الإنسان موضوع المأساة، فهو سوري يعيش الحرب، ورغم هجرة الكثيرين ، ظل في وطنه يعاني ويجوع ويخاف ويبرد في الشتاء لقلة الوقود، وعند يشتد القهر على صدره يتدثر ببطانية المساعدات ويخرج إلى الشرفة، ليجد أن زوجته تسأله : هل خرجت من أجل جارتنا أم مرعي لتراها من هناك؟!

وفي الشارع حيث تعم الفوضى وتهمل البلدية حل مشكلة الحفر والطين والإصلاحات، يغوص في الطين، ثم تمر سيارة وترشقه بماء مخلوط بالتراب، وعندما يعود إلى البيت تسأله زوجته عن السبب في ذلك ، فنراه وهو يجيب : ” إنها أم مرعي لعنها الله”.

أي أن المأساة تتشابك في رمزيتها بين التفاصيل الكبرى والتفاصيل الصغرى، فتزيد العبء على كاهل الإنسان، فتصنع غربته وتضحيته وهو على أرض وطنه .

وفي قصة (الضيوف) نتعرف على نوع من أنانية الحرب، فعندما تسقط القذيفة على بيت جاره يردد الحمد لله التي لم تسقط القذيفة على بيتي، وعندما سقطت فوقه وارتمت أمه لتحميه بجسدها فماتت، يردد : الحمد لله ، لم تصبني القذيفة التي قتلت أمي !

ونراه في قصة (الشيخ والمحراب) يحاكي قصة اغتيال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وحفيده، دون أن يشير إلى اسمه، لأن مجرد إطلاق الفكرة ، يكشف أبشع مظاهر المأساة في الحرب ونوعيتها في بلادنا، فالشيخ لاينفك عن النصح بوقف القتل، والالتفات إلى البلد وأهلها ومستقبلها، ورغم ضعف جسده والنصائح الكثيرة له بأن يرتاح يستمر في الذهاب إلى الجامع ، وفي آخر مرة يتكئ على حفيده وهو يدخل الجامع ليصلي ويمارس دوره الاجتماعي والديني الاصلاحي، فيفجرون الجامع، وعندما يشعرون أنه لم يمت يلاحقونه بالرصاص، ويمنعونه من استكمال نطق الشهادة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة .

في قصة (العودة من الآخرة) التي حملت المجموعة اسمها يستكمل الكاتب سهيل الذيب مشروع رؤيته القصصية للحرب، لكنها هذه المرة ، أخذت بعدا آخر من خلال علاقة الأم بابنها الذي قتل في الحرب، فالمقاتل في الجيش الشعبي  جريس شاهين يزفه أصدقاؤه في حي الدويلعة ، لكن أمه تراه وقد جاء ليلاً فعرفته من رائحته وحضنته وسألته عن حاله ، إلا أن هواجسها من أن يبقى حاله فقيرا جعلتها تظن أنه في حال غير مرضية ، وعندما يحكي لها عن المفارقات التي تحصل معه تضحك، ثم تفقد ذاكرتها ” لكن ابتسامتها لم تفارقها قط، وبدا لكل من زارها أنها تكلم أحدا، ولاسيما أنها بقيت تضحك أحيانا بصوت عال . ص 49

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى