عمّار الأرتيست
عمّار الأرتيست .. كان أبي يأخذني صغيراً في جولة صباحيّة ممتعة لكنّها مضنية بين أزقّة وأسواق تونس القديمة المحاذية لجامع الزيتونة الشهير، وكثيراً ما كان يلبسني في مثل هذه المناسبة الثياب التقليدي ذي الأصول الأندلسية ويكتفي هو بالبدلة الإفرنجية .. ! مع طربوش على الرأس ودون ربطة في العنق.
كان يغتبط مزهوّاً وهو يمسك بيدي كلّما ابتسمت لي سائحة أو صوّبت آلة تصويرها نحوي، ثمّ يعرّج بي-مثل كلّ مرّة- نحو محلّ صديقه عمّار (الأرتيست)- هكذا يلقبونه – و الواقع في أحد الزواريب المتوّهة.
لم أكن وقتها على وعي تام بأنّ العم عمّار يمتهن عملاً شديد الغرابة والطرافة…
كان يأتيه أصحاب دور السينما ومندوبوها من شركات توزيع الأفلام الأجنبيّة بالملصقات الدعائيّة العملاقة ذات التعرّي الصريح ويطلبون منه ستر ما يمكن ستره والتخفيف من سخونة بعض الصور عبر إلباسها ما خفّ من الثياب بفضل فرشاته وألوانه وأنامله السحريّة قبل إنزالها ولصقها في الشوارع .
عمّار الأرتيست رجل بارع في تحقيق المعادلة الصعبة، احترام (الحياء العام) من جهة وضرورة الربح المعتمد على الدعاية والإثارة في أوساط الشبّان والمراهقين من جهة أخرى، أي: (لا يموت الديب ولا يفنوا الغنمات).
غريب أمر هذا الرجل، كأنّه يعرف خزانة الملابس الحميمة لمتعرّيات السينما الغربيّة قبل بدء التصوير، بل أنّي أكاد أراهن أنّه أكثر قدرة ومهارة وذوقاً منهنّ في اختيار أشكال وألوان الملابس التي تناسب إغراءهنّ.
استقبلنا العم عمّار في قبوه العجيب بعد أن تأكّد من هويّة الطارق، صافحنا من معصمه معتذراً عن كفّيه المخضّبتين بألوان الثياب، قلب البوسترات على ظهرها ثمّ قدّم لنا الشاي وبدأ في حديث جانبي مع والدي قبل البدء في لعبة الدومينو.
كثيراً ما كنت أغافل الاثنين وأتسلّل إلى الحجرة الخلفيّة التي تتكدّس فيها (رزم) الأجساد، وأبدأ بالتلصّص عليها قبل أن تلبس من (تصاميم) العم عمّار، أجيال من اللاتي كدن أن يحرقن ويلهبن ورق البوسترات وأصابع وفراشي ملبسها بفتنتهنّ: مارلين مونرو، كلوديا كاردينالي، صوفيا لورين، بريجيت باردو، صوفي مارسو، ايزابيل تايلور، كاترين دو نوف وغيرهنّ.
كان العم عمّار لا يسمح لـ(حريمه السينمائي) بالتبرّج أمام الغرباء ماعدا خاصّة الخاصّة، لست أدري إن كان ذلك بدافع الأمانة المهنيّة أم لاعتبارات لا يعلمها إلاّ هو وحده، خصوصاً أنّه لم يتزوّج في حياته قطّ…. كيف يتزوّج من تتمدّد على طاولته أجمل جميلات العالم..!؟.
طلب منه أبي يوماً أن يلتقط لي صوراً لـ(يمنتجها) فيما بعد على طريقته الخاصّة، عدنا بعد أسبوعين لاستلامها وكانت المفاجأة مدهشة..! لمحت صورتي واقفاً تحت فستان مارلين مونرو في لقطتها الباريسية الشهيرة أثناء تصوير فيلمها: (البعض يحبّذها شقراء)، شاهدتني واقفاً إلى جانب صوفي وكلوديا في أجمل مشهد عراك بين فاتنتين، أبهرتني صورتي وأنا أحلّ محلّ طرزان طائراً بين الأشجار ومحتضنا القردة المربّية(تشيتة)، إنها صورة لا ينقصها إلاّ العواء … أمّا صورتي في هيئة زعيم الهنود الحمر ففد أثارت في نفسي الهلع.
عدت راكضاً إلى البيت كي أعرض الصور على والدتي وأبهرها بالمفاجأة … إلاّ أنّ أمّي غضبت مني ومن أبي غضباً شديداً وأمرت بإتلاف الصور كلّها، ما عدا صورتي (طرزان) و(الهندي الأحمر).
حين زحفت موجة الأفلام الهنديّة إلى بعض القاعات طلب الموزّعون من العم عمّار أن يكفكف من دموع أبطالها على البوسترات مقابل جرعة زائدة من الإغراء الهوليودي … وهكذا بدأت تتحوّل ورشة عمّار الأرتيست من (ملبس) إلى (مشلح) وتاه المسكين بين (هوليود) الغرب و(بوليود ) الشرق … وكي لا يموت الذئب و لا تفنى الغنمات.
انتهى العم عمّار الأرتيست نهاية سينمائيّة تليق بمخيّلته، فلقد وجدوه في قبوه جثّة هامدة فوق جسد من ورق، وبكت عليه في الحجرة الخلفية بقية (أرامله) من نجمات الإغراء.
الآن وقد رحلت شخوص هذه الحكاية، أمشي في ذات الأزقّة، أتحسّس يد والدي تقتادني إلى ورشة العم عمّار، أقف عند الباب فيستقبلني دوران المكنات… لقد تحوّلت إمبراطوريّة عمّار السينمائية إلى مشغل لصنع الجوارب و(الإشاربات والعباءات) النسائيّة…. ربما لم يتغيّر شيئ .