عيد كل الهزائم
عيد كل الهزائم .. يقول الأوروبيون ـ وعلى سبيل الممازحة ـ إنّ أبناء عمومتهم الإسبانيين قد استوفوا كامل أسماء القدّيسين من مختلف الكنائس في احتفالاتهم اليوميّة وصادف أن واجهوا سنة كبيسة وبقي لديهم يوم يتيم دون قدّيس ـ أي دون احتفال، ففكّروا وقدّروا ثم قرّروا تسميته بعيد “كلّ القدّيسين ” …وبذلك تكون دائرة الاحتفالات قد اكتملت ولم يبق في “روزنامتهم ” ورقة واحدة عارية من الفرح والمعايدة والتهاني.
لا وجود للأعياد العابسة والمتجهّمة في احتفالات الشعوب المحبة للحياة، بما فيها تلك التي تحيي الوقائع الأليمة والذكريات الحزينة، إذ تحوّلها إلى مناسبة لبلسمة الجراح وأخذ العبرة والانتصار على الأحزان.
لا تحتوي قواميس المحتفين بنعمة الحياة عبارات تخدش بهجة الحياة كالنكبة والنكسة والهزيمة والفجيعة …بل تؤمن عميقا أنّ هناك دائماً مرّة أخرى وأنّ الحياة الأفضل تبدأ غداً.
وفي المقابل جعل أغلب كتّابنا من العربية لغة مترمّلة لا تجيد إلاّ اللطم والعويل، تتشح بالسواد، وتتكحّل بالوجع، تتسوّك بالمرارة وتلزم مجالس العزاء فاستكثروا عليها ارتداء زهور البراري والرقص مع خيوط الشمس وتباشير الفجر الأولى .
قد يقول “الواقعيون جدّاً ” في أيامنا الصعبة “من أين نأتي بالفرح بين المآتم ونتصيّد البسمة في أنهار الدمع …والشمس فوق رؤوسنا تشبه السرداب ؟!…..كيف يرقص المكبّل بالأغلال ويغنّي من في فمه حصرم؟”.
صحيح ما ذهبتم إليه يا سادة الحبر الأسود والكتب “الأكفان “…ولكن ..هل تعتقدون أنّ أجداد الشعوب “المتبسّمة” قد ولدوا فوق الحرير، وتقمّطوا بأوراق الورد، واغتسلوا بماء المسك، ومشوا على السجّاد ولبسوا المخمل وتربّوا في أحضان الأرائك…!؟
نظرة سريعة وفاحصة للتاريخ القديم والحديث تجعلنا نبصم بالعشرة ـ وممّا لا يدعو للشكّ ـ أنّ رغد العيش قد زار ديارنا وألفها أكثر من ديارهم وأنّ سجلّنا “الفجائعي” لا يعدو أن يكون دفتراً صغيراً أمام تاريخ الويلات والحروب والكوارث في بلادهم .
لم ينس المحتفون بالحياة في أوروبا وغيرها محاكم التفتيش وعتمة المعتقلات وبشاعة الإبادة والتطهير العرقي وحرب المائة عام والمدن التي تجري من تحتها الأوبئة وحمّامات الدم ويقتات منها الفقر والجهل والتخلّف، بل ـ ولأجل كلّ ذلك ـ غنّوا ورقصوا وابتهجوا انتصاراً للفرح والجمال الذي يقضي على الموت .
هكذا ، وبالمقابل، لم يتذكّر العرب زمن الوصل والأمجاد والفتوحات المعرفيّة التي جابت الآفاق وعبقرية الذين أدهشوا العالم علماً وفروسية وأخلاقاً .
لقد نسوا كلّ ذلك وتذكّروا بشاعة الفتن وقبح المؤامرات وثقل الهزائم فأوجدوا لها “احتفالات” من نوع خاص، تضعف الحاضر وترهب المستقبل، ترشّ الملح على الجرح وتحيي الآلام وهي رميم .
يكاد المرء أن يكون متأكّداً بأنّ هؤلاء “الانتحاريين الجدد” على استعداد تام لخلق وابتكار ذكريات حزينة وإن لم توجد في تاريخنا ….وبذلك تكتمل الدائرة الشرّيرة السوداء فيختتمون السنة الكبيسة مثلا بتسمية “احتفالية كل الهزائم ” .
كلمة في الزحام
تحية إلى روح الفنان إياس خضر الذي غنّى بمنتهى الحزن أغنيته الشهيرة “وداعاً يا حزن “.