عين من زجاج وأخرى من شغف…
عين من زجاج وأخرى من شغف…إنّه الفنّان الفوتوغرافي الفرنسي الشهير (أنطوان داغدا) الذي كان لي شرف التعرّف إليه في دمشق التي كان يزورها لأول مرة منذ بضع سنوات، وقد (أتخمت) عدسته يشتى أصقاع الأرض وأصناف البشر الذين سبحوا في حوض التحميض، ثمّ أخرجهم يستنشقون الضوء وقد علّقهم بالملاقط على حبل غسيله الخاص..
يعادي (أنطوان) الأساليب الرقميّة الحديثة في التصوير ويعتبر أصحابها من ذوي العيون الزجاجية التي لا تدمع ولا تسحر ولا تغفو…. ليس فيها حور أو حول ….. ولا يتطاير منها أي شرر..
لكنّ الغريب في الأمر هو أنّه يرى – فعلاً- بعين واحدة (مثل آلته تماماً)، لقد فقد إحدى عينيه في سنّ الطفولة، وعلى إثر حادثة دراميّة أكثر غرابة من صوره وحياته… وطريقته في التفكير والسلوك والنظر إلى العالم..
صديقي (أنطوان) صياد من نوع خاص، يقنص البشر بآلته لتخليدهم وإنقاذهم من أنياب الموت والنسيان والزوال..
إنه يكتب بكبسة زرّ ما تعجز عن تدوينه الأقلام والصحائف والرواة والقوّالون…. تفوح من صوره روائح الأمكنة، تنصت لأنفاس أصحابها، تشتمّ عطرهم … بل وتكاد تحاورهم وتغيّر من أوضاع جلساتهم في أحيان كثيرة ..
يختفي متسلّلاً وراء آلة تبدو في ظاهرها خرساء … ليصدح فيما بعد بحديث بصري بليغ، مثل خطيب لا يشقّ له عصا أو كلام أو غبار..
توقّف كثيراً عند سحر الشام بعد أن تشنّجت سبابته من كثرة الكبس والتفقيس، لكنه فضّل – ولأوّل مرّة- أن يحتفظ بصور طازجة داخل ذاكرته الخاصة دون أن تمرّ بأحواض التحميض في الغرف السوداء وتنشر على حبال التنشيف وتعرض أمام عيون المشاهدين والفضوليين ..
لقد تفوّق هذه المرّة على آلته التي هزمتها فتنة الشام واختار أن (يتلصّص) بمفرده من ثقب بوّابة التاريخ…. ويحتفظ ببعض السرّ لوحده مثل شيخ طريقة مقتدر..
طلب منّي في نهاية زيارته أن أكتب له بعض التعليقات عن بعض الصور التي رافقها ورافقته، فكّرت وقدّرت ثمّ قرّرت الاعتذار لعدم قدرة قلمي على مجاراة عينه التي تقف خلف الكاميرا…. لم أكن أريد أن أكون عينه الزجاجية الثانية، ولا أن أتمثّل تعليقات نزار قباني على صور أخيه (صباح) الذي حاورت عدسته الكثير من المواقع السورية بشاعرية لافتة..
أطلعني أنطوان على مئات الصور التي تمتدّ – كخط البراكين والزلازل والمنخفضات الجويّة- من أمريكا اللاتينية، إلى الهند والصين وإفريقيا، دون اعتراف بحدود العقائد واللغات والأعراق..
كيف جمع هذا الرجل الغريب العالم في حدقة واحدة وجعلنا نطوف أصقاع الأرض قبل أن يرتدّ إلى طرفنا جفن، كيف محت هذه الآلة العجيبة الفوارق والحدود … ونبّهتنا إلى الهمّ الإنساني وحده دون غيره ..
لا يشعر المتصفّح لألبوم (أنطوان داغدا) بحدود غير تلك التي يرسمها الورق، فهذا طفل بنغالي يلهو بقصبة مع مياه السيول التي تجرف بيته في غفلة من أهله المفجوعين، هذه ذبابة تستريح فوق أنف طفل جائع لا يملك القدرة على نشّها، هذه بائعة هوى بائسة ومنكودة الحظّ في الهزيع الأخير من ليل أمريكي طويل، هذا مخمور يتبوّل على بقايا جدار برلين، هذا وجه هنديّ أحمر ينفث دخان سيجارته في وجه الفراغ، ذاك غجريّ يشعل قيثارته عزفاً أمام قبّعته الفارغة على قارعة الطريق، هذا قرّاد مغربي يلاعب سعدانه في ساحة جامع الفناء المراكشي وقد انفضّ الناس من حوله، تلك عجوز بوسنيّة تبيع الزهور في مقبرة لضحايا الحرب وقد غطّاها الثلج، هذان العاشقان المتكاتفان يحيكان مؤامرة اسمها(الحب) وسط شارع مكتظّ بالمال والأعمال…والأحلام أيضاً.
هذه الصبيّة التي يحمل وجهها المنمّش بقايا جمال هي التي كانت حبيبة صديقي (أنطوان) … وهذا المكفوف البائس الذي يمشي مستعيناً بعصا بيضاء هو الذي قلع عين صديقي (أنطوان) إثر مشاجرة دامية في سن المراهقة..
هذه الصورة دون نظارات، هي لي، أمّا المكان فهو دمشق التي لم أعرف لها صورة… لا في عدسة (أنطوان) ولا في ذاكرتي…. كيف يتذكّر الواحد صورة هو في داخلها..!؟
شكراً، (أنطوان). شكراً لعينك الزجاجية…. شكراً دمشق لك ولزجاجك المعشّق بالحب في تلك الأيام ………
أين أنت الآن يا انطوان، أين دمشق … أين أنت يا “أنا” … أريد أن ألملم هذه الصورة التي مزقها الدمار..