غزل قوم عند قوم تحرش
غزل قوم…يقول أبو سليم، وهو رجل دمشقي تجاوز السبعين من العمر، يعرف بروح الدعابة، ويعيش حاليا في بيروت “وفق قوانين التحرش الجنسي والمعمول بها في العالم الآن، فإن أغنيتي “حكيم عيون” لعبدالوهاب، و“فاتت جنبنا” لعبدالحليم، من الجرائم الموصوفة التي يجب أن يحاكم أصحابها، ويمنع تداولها بالنظر إلى مضمونها التحريضي المشجع والمبارك للتحرش الجنسي”.
ويعقب جليسه أبوإلياس، في إحدى مقاهي الروشة بالعاصمة اللبنانية، أن عظماء الشعر والفن الذين كتبوا أجمل قصائد الغزل عبر التاريخ، لم يدركوا أن بعض كلمات أغنياتهم وأعمالهم الأدبية “تقع تحت طائلة القانون” بمعايير زمننا هذا، وتحظرها النصوص المعدلة في السنوات الأخيرة والقاضية بتجريم عبارة ملاطفة خرجت من فم عاشق في لحظة صدق، وطربت لها أذن غانية في لحظة انتشاء ثم ما لبثت أن تحولت إلى جريمة اسمها التحرش الجنسي، وهي تهمة تطارد صاحبها وتعده ببئس المصير.
وبعيدا عن التناول الساخر لقوانين التحرش الجنسي التي باتت تتسابق في التكشير عن أنيابها وتضييق الخناق على كل حالة مغازلة أو ملاطفة بين رجل وامرأة فإن الكثير من المنتقدين لهذه المبالغات في النصوص التشريعية ذات الصلة، يرون أن من شأن هذه القوانين أن تخلط الحابل بالنابل، وتجعل من عبارات الغزل البريء تهمة تلاحق صاحبها فتستحيل الحياة عندئذ إلى جملة من الأتعاب المحفوفة بالحذر والتوثب بين الجنسين.
لم يكن أبو سليم، القادم من أزمنة الأناقة والفن الراقي والفروسية الأخلاقية يدرك أنه سيأتي فيه يوم ينفتح العالم على مصراعيه، ويصبح لديه تعريف واسع ومطاط لجريمة التحرش، تشمل من بين أنواعها الملاطفة التي نعتوها بـ“جريمة التحرش اللفظي” والتي هي في الأصل، لا تخرج كثيرا عما يقال في الروائع الأدبية والفنية، فما الذي جعل العالم يتجاهل أزمات العالم المفجعة والتي تبدأ من الحروب ولا تتوقف عند حدود الاحتباس الحراري، يتجاهل كل المصائب ويلتفت إلى تهمة يسهل توجيهها ويصعب إثباتها ويسمونها التحرش الجنسي.
ليس الأمر استهتارا بجريمة تستنكرها جميع الأعراف والقوانين، وتدينها جميع النظم المناصرة للكرامة البشرية، لكن هذا السباق المحموم وهذه المزايدة في سن القوانين الرادعة لكل أشكال التحرش الجنسي، تضمر نوعا من التساؤل عن مدى جدية وفاعلية هذه التشريعات، وعن النوايا التي تقف خلفها، خصوصا إذا علمنا بأن تهم التحرش الجنسي في دول غربية كثيرة أصبحت فخاخا تنصب للمشاهير في السياسة والفن والرياضة والإعلام.
أنواع التحرش أو أشكاله تتفاوت ما بين التحرش البدني أو طلب المواعدة أو العروض المختلفة، وتصل في أدنى مستوياتها إلى مجرد تعبيرات الوجه والنظر المتفحص لجسم شخص ما، أو حتى تركيز النظر على عينيه، بل ويصل الأمر إلى أن البعض يرى أن كل ما يغضب المرأة من كلمات وأفعال تحرش. كما أن أبحاثا واستطلاعات كثيرة قد تجاهلت تحرش المرأة بالرجل خصوصا في المؤسسات التي تكون فيها المرأة في منصب المدير أو رب العمل.
وبعد أن بات التحرش أحد أشهر عناوين وسائل الإعلام العالمية خلال الفترة الماضية، أثير جدل كبير حول القوانين التي تحارب التحرش، وعما إذا كانت تكفي، أو بالعكس، تفتح باب الضغط والابتزاز، خاصة بعد أن ظهر في فضائح التحرش الأخيرة في البرلمان البريطاني والبرلمان الأوروبي وهوليوود.
الجمهور العريض من الذين يلتمسون الذرائع للمتهمين بالتحرش أو يقللون من تفاقم هذه الظاهرة، يسوقون مجموعة من الأعذار والتبريرات تبدو متشابهة ولا تخلو من غرابة.
في تونس ترى آمال الأطرش، موظفة علاقات عامة في مؤسسة سياحية بتونس، أنه يوجد فرق بين المعاكسة ذات الطابع العدائي والحاد، والتي هي أقرب إلى التحرش، وبين المجاملة الرقيقة والكلمة اللطيفة التي من شأنها أن تدخل السرور والبهجة إلى النفس. وتعلق الموظفة ذات الثلاثين عاما، على التعديلات المتشددة في ما يخص قانون التحرش بقولها “هناك مبالغات في بعض الفقرات التي من شأنها أن تجعل هذا القانون سيفا مسلطا على رقاب جميع الرجال، وتسهم في استخدامه بطرق كيدية وظالمة ثم أنه يتعارض نوعا ما مع طبيعة وظيفتنا التي لا يمكنها الاستغناء عن عبارات المجاملة لدى زبائننا ونزلائنا”.
وتشاركها زميلتها سلمى، في رأيها مضيفة وهي تبتسم “هذا القانون سوف يزيد في نسب العنوسة والعزوف عن الزواج، ذلك أن العلاقات الزوجية السعيدة كثيرا ما تبدأ بكلمة مغازلة أو حتى معاكسة من النوع الخفيف.. هذه المعاكسة قد تؤدي بعريس المستقبل المفترض إلى خلف القضبان.