فاكهة المدن
فاكهة المدن .. أحب المجانين الذين يطوفون شوارع المدن الكبرى , إنهم كالعشق الذي يعطي للنّساء جمالهنّ وبريقهنّ الخفيّ والأخّاذ ,تخيّلوا ليلى بلا قيس ,أو إيلزا بلا أرغون ,تخيلوا دمشق دون ياسمين وقاسيون ونزار قباني الذي قال يوما :ضمّني إليك يا قاسيون ولا تسأل عن جنوني …ذروة العقل يا حبيبي الجنون).
الجنون, يعطي للمدن زهوها وْأناقتها ويجعلها أقل تجهّما وعبوسا , فمدينة بلا مجانين هي مدينة بلا أسئلة ,بلا تنوّع,بلا متنفّس وبلا ذاكرة… هي ببساطة ليست مدينة بل قرية نمل بشري لا يحرّكه عقل ولا حتى غريزة.
لا نخفي عادة إعجابنا الخفي بهذه الفئة التي تقول ما نشتهي قوله وتفعل ما نشتهي فعله ولا تعير اهتماما أو اعتبارا لقيم غالبا ما تقيدنا كالخجل والخوف والندم والمراعاة الزائفة للزمان والمكان.
غالبا ما يثير المجانين ضحك الآخرين ويكونون مادة للتفكه ورواية النكات على اعتبار ان الضحك هو ردة فعل بشري إزاء منطق غريب وغير مستأْنس فالحيوانات –بما فيها الأبقار والتماسيح ـ لا تضحك ولا تبكي ولا تسال عن عقولها.
لقد صنّف الناس عبر التاريخ هذه الفئة في خانة السلوكيات اللاّمسؤولة وسمح لهم دون غيرهم بشيء من التطاول وسلاطة اللسان ,حتى حسدهم بعض الحكماء والشعراء فتخفّوا في زيّ البهاليل والمهرّجين وحتى (المبروكين) من أْصحاب الكرامات الذين غالبا ما ينطقون بالحكمة او الكلام الملغّز او الشتيمة فلا يعاقبون عليها.
من المجانين وأْنصافهم من حظي بمجالسة الملوك والسلاطين (ربما لأْنهم لا يطلبون شيئا) وتذكّرهم التاريخ أكثر من مستضيفيهم وارتبطت أْسماؤهم بحوادث وعبر فْأمسوا واقفين على التخوم بين الحكمة والجنون كاليوناني الذي يحمل مصباحه باحثا عن الحقيقة في وضح النهار ومهرجي شكسبير وخدم موليير وشخصيات تشيخوف مرورا ببهلول الرشيد ووصولا الى العصور التي استحدثت فيها( العصفوريات) والمشافي المختصّة والتي أصبح فيها مفهوم الجنون ملتبسا,هلاميّا ومشوّشا.
تخيلوا سجنا دون جرم , دون محاكمة,دون قضاة, دون مدة عقوبة واضحة ,دون عفو خاص او عام ودون زوّار…. ..!..إنه مشفى الأْمراض العقلية..!
يا لفظاعة العقل الانساني حين يستبد بعقل آخر – لمجرّد أنه يختلف عنه – ويجبره على (التداوي) كي يشفى من تفكيره المختلف ويعود لحظيرة >الصّواب< الذي تقرّره المجموعة..!
ولكن…قد يقول القائل(عفوا سارتر,اذا تبنّى كل واحد منا مقولتك بتذمر واستعلاء:>الجحيم هو الآخرون <فمن هم الآخرون؟)
أليسوا نحن؟ أْليسوا أْولئك الذين سنّوا منظومة الأعراف والأخلاق والقوانين التي تنظّم وتضمن حياة واستمرار الفرد والجماعة؟ أْليس من المجانين من يشكل خطرا على ْأمن وحياة الناس؟
ما هي حدود الاختلاف والتوافق؟
ما هو مفهوم الجنون ,ووفق أي معايير نشخّصه؟أْلا يشبه الجريمة حين تصنعها المجموعة وينفذها الفرد؟
أْسئلة قد تؤدي بنا حقّا الى حافة الجنون ولكن الجواب واضح ,إنها القوة بمختلف تجلّياتها, هي الوحيدة التي تملك الحجج والبراهين على ْأحقيّة الذئب في ْأكل الحمل وزجّ الطبيب المعالج في عنبر المرضى المجانين كما في رائعة تشيخوف(عنبر رقم6).
إذا كان الجنون أْقصى درجات الرفض فماذا نسمي أْقصى درجات الانصهار؟
لعل حياتنا هي بحث دؤوب عن التوازن الذي نلتقيه حينما نلتقي بنقيضنا ْأو ما نشتهي أْن نكونه ,وهذا ما يفسّر بهجتنا عندما نتجول في مدينة يزيّنها المجانين والمارقون والمشرّدون مثل باريس ونقتني من أْكشاكها صورا تذكارية وبطاقات بريدية تمثل هذه الفئة التي تحصل على بعض العناية من بلدية المدينة بفضل مبلغ اقتطعته من تلك الصور نفسها.
صورة مجنون باريسي يستظل بتمثال نابليون تذكّرني بذاك المجنون الحكيم الذي جلس في زاوية متدفئا بشمس الصباح في مقدونيا حين وقف الاسكندر الأكبر أْمامه مانعا عنه أْشعة الشمس فدار بينهما الحوار التالي:
ـ المجنون:اغرب عن وجهي ايها الرجل ودعني استمتع بدفء الشمس.
ـ الإسكندر :ويحك ْأيها المجنون. .أْنا لست مجرد رجل…أْنا الاسكندر الأعظم.
ـ المجنون:وماذا فعلت حتى تلقّّب بالاعظم؟!
ـ الاسكندر:غزوت نصف بلاد العالم
ـ المجنون:وماذا أيضا…؟
. الاسكندر:وسأْغزو النصف الآخر وأْصبح سيّد هذا العالم و..
ـ المجنونمقاطعا ) وماذا بعد؟
ـ الاسكندر:لا شيء..سوف أْعود الى موطني هنا وأستمتع بشمس الصباح الدافئة
ـ المجنون:اذن…اغرب عن وجهي ايها الرجل ودعني استمتع بشمس الصباح الدافئة دون ْأن أضطر لغزو العالم.
• كلمة في الزحام :
أقسم أنّي شاهدت في عاصمة عربية مجنونا يهتف بحياة حاكم البلاد وهو متحمّس! …هل امتدّت يد الحاكم لفرض سلطتها حتى على العقل الباطن ودجّنت الجنون …هل هناك جنون عادي وآخر عربي..!؟.