أطلب اللجوء العاطفي إلى دمشق
أطلب اللجوء العاطفي إلى دمشق .. دأبت بلديّة الضاحية التي كنت أسكنها في دمشق أيام ضجيج العزوبية وهدوء الشوارع والخواطر، دأبت على الإعلان عن انقطاع الكهرباء ومجيء (المي) وكافة مناسباتها الاجتماعية -بحلوها ومرّها – عبر مضخّم صوت صباحي مبحوح ، لا أتمنّى لأحبّتي سماعه.
يقول (المنادي المعدني) – والذي هو كناية سمعيّة عن ذاك الشريط الإخباري الأحمر الذي يظهر بخبره العاجل في أسفل الشاشات الإخباريّة – : (إلى الأهالي الكرام، نعلمكم أنّ الخبز متوفّر بالفرن –وبكميات معقولة- إلى حدود الساعة11…).
نداء سمعته في نومي فاستيقظت مذعورا ، متعوّذاً ومستغفراً كعادتي مع الكوابيس (شريك الفراش)، لكنّ النداء تكرّر أكثر من عشرين مرّة بينما كنت أعدّ ركوة قهوتي .
لم أنتبه إلى أنّه يوم (الوقفة)، (وقفة عيد الاضحى) وخلته نداءاً عاديّاً، يعلن عن عطلة الفرن أو تعطّله، فقلت لنفسي: لا بأس سأتدبّر الأمر بسندويش أو طبخة معكرونة .
اتجهت إلى نافذتي (المطبخيّة) والمطلّة على أسطح تحطّ فوقها الخزّانات وصحون الدشّ وحمائم جارنا (الكشّاش)، والذي يبتهج حين ألقّبه بالمايسترو.
فتحت(لابتوبي)، حاولت إتمام كتابة روايتي المؤجّلة منذ سنوات فلم يسعفني المزاج، وبتحويلة سريعة انتقلت إلى لعبة الورق (الشدّة)، دخلت في لعبة حامية الوطيس مع هذه الشاشة الصغيرة وكلّما غلبتها تكافئني بالقول:(هنيئاً لقد فزت)…!
أجبتها: (أين تصرف هذه التهنئة !…؟ أما كان من المفروض أن تنزلّ من جوفك أموالاً يا (لابتوبي) العزيز كما يحدث في الكازينوهات ودور اللعب الشهيرة ؟).
كثيراً ما كنت أهزم غريمي المحمول في لعبة الورق، أمّا هذا المساء فقد جعلني أنام حانقاً وكظيماً في الشطرنج، لست أدري كيف فاجأني هذا (الوغد) بعبارة (كش مات)، فكّرت في إلقائه من النافذة أو إهدائه إلى جارنا السمّان، لعلّه يحتاجه أكثر منّي … ثمّ نمت دون عشاء واستيقظت في اليوم التالي على أصوات صلوات العيد..
لا، لن أكتب قصيدة حنين هذا الصباح في التراتيل والتهاليل والتسابيح التي تسافر بي دون تذكرة إلى هناك بعيداً وعميقاً في رأسي .. إلى حدّ الطفولة وكل الذي كان يستجدّ من روائح ثياب وشواء خروف لم يجفّ دمه بعد.
صار الخروف يذبحني الآن.. بصوفه الذي صنعت لي منه أمي برنساً أمازيغيّاً، بدمه الذي تخضّب به الأكفّ وتطبع (خمسة) صريحة في وجه الحاسدين على العتبات، بقرنه المتكسّر تحت رأس كبش قويّ أثناء مبارزة حامية في ساحة الحي عشيّة يوم الوقفة… وهي لعبة التوانسة المفضّلة عشيّة الاضحى.
من يصدّق أنّي مازلت أميّز صياحه من ملايين الخرفان في مشارق الدنيا ومغاربها، من يصدّق أني لم أبك عند نحره في ذلك الصباح، بل هو الذي بكى مودّعاً إياي بقرن واحد يشهد على حتفه.
عفواً هل أقترب من الشعر في يوم بوزن (أُحد)…؟ سأستمرّ في الحديث عن يومي هذا وفي مكاني هذا …أين كنّا ؟..
تركت ورائي (بيجامتي) وبيتي ونزلت أبحث عن شيئ أقتاته غير اجترار الحنين … وإذ بأبواب المحلاّت والدكاكين تعبس في وجهي لتزيد من نهاري طولاً.
مررت بأطفال يشعلون المفرقعات ويضحكون لامتعاضي من دويّها …. كان ذلك قبل (مفرقعات الكبار) ولعبهم بأقدار الصغار.
لم ألمحني على المراجيح ولم أشاهدني مع أبي على مائدة الشواء ولم أسمع أمي تحذّرني من توسيخ ثياب العيد.
طلبت(اللجوء الغذائي) إلى حيّ غالبية سكّانه من المسيحيين، فابتسمت أبواب محلاته في وجهي وتركت حنيني وشأنه …. كذلك كنت أفعل الشيء نفسه في أعياد المسيحيين حين كنت أسكن حيّهم …..
ماذا أفعل يا الله، هذه طبيعتي : أتجنّب الذهاب إلى الأفراح والأتراح بنفس السويّة، ذلك أنّ الاكتئاب يداهمني في الأولى كما يباغتني الضحك في الثانية، هل عليّ أن أتقدّم بطلب اللجوء العاطفيّ ..!؟
*كلمة في الزحام :
يوم الوقفة : (وقفة ) مع الذات وهي تجرد حساباتها قبيل العيد الذي يأتي ليوزّع أقنعة الفرح المستحيل على الناس الفقراء و الطيبين …. وأقنعة الجديّة والتضامن الكاذب على الكثير من اللصوص والمنافقين …. لكنّه يترك وجوه الأطفال عارية من التنكّر وخالية من المساحيق.