كتاب الموقعكلمة في الزحام

التوانسة والشام….”حديث الروح”

التوانسة والشام….”حديث الروح” .. نعم، إننا تعارفنا منذ تأسيس قرطاج، عام 814 ق.م .. على ما أتذكّر … أي قبل ظهور الديانات السماوية الثلاث … ولن تنقطع خيوط المحبّة بيننا، فلا تؤاخذونا بما فعل السفهاء منّا “.
عبارة كنت أقولها لأصدقائي السوريين – من المعارضة قبل الموالاة – في الوسط الثقافي والمحيط الاجتماعي بمنتهى الاعتذار والانكسار أمام هول ما يفعله القتلة ” الجهاديون” من حاملي الجنسية التونسية، أولئك الذين التحقوا بجبهات الاقتتال الطائفي وساهموا في تشويه انتفاضة الشعب السوري العادلة والمحقّة بعد أن غرّر بهم الواعظون الجدد وباعوهم في سوق النخاسة الثوريّة.
عند بداية الأحداث، لم يكن السوريون يأخذون على محمل الجدّ ما يتناقله إعلامهم “الرسمي جدّاً” عن وجود عناصر إرهابية أجنبيّة في صفوف الجماعات الإسلامية المسلّحة وخصوصاً من تونس: البلد الذي يحظى بتقدير خاص في أذهان النخبة والعامة على حدّ سواء، لما كان يمثّله الحضور التونسي المشرّف آنذاك عبر وجوه لامعة وفاعلة في الأوساط الطلاّبيّة والثقافيّة والفنيّة والإعلاميّة .. وحتى باقي الصلات والمصاهرات الاجتماعيّة والمعاملات التجاريّة .
كان لنا حظوة خاصة عن باقي رعايا البلدان العربية والإسلامية بفضل كل ما تقدّم ذكره، علاوة على” الرصيد” التاريخي لإنجازات تونس الحضاريّة والتي ظلّت مثالاً يستشهد به الليبراليون السوريون على وجه الخصوص وينادون – إلى الأمس القريب – علانيّة باستنساخه والنسج على منواله بعد أن أعيتهم بعض الرهانات “القومجيّة” الخاطئة والسياسات الحائرة والمتخبّطة بين ثوابت “الممانعة ” وضرورات “الإصلاح والتطوير “.
كنّا – بحسب موقع كل واحد فينا ومن دون تواضع كاذب – لا نكتفي باستهلاك “الرصيد التونسي ” في سوريا، بل نحاول أن نغنيه ونضيف عليه عبر محاولة تمثّل سلوكيات حضاريّة كسفراء دون أوراق اعتماد …. على عكس”سفارتنا ” الأخيرة الرسميّة التي حوّلتها “خارجيّة ربيع النهضة” إلى أبواب مغلقة في وجه جالية انقطعت بها السبل بعد أن خانها المؤتمنون عليها … وكانت أشبه بكلمة حق يراد بها باطل .
جاء اليوم الذي شاهدنا فيه – بالعين المجرّدة وبما يقطع الشك باليقين – جثث شبان تونسيين تسحلهم الكلاب الضالة من لحاهم في ريف دمشق وقد تناثرت “هوياتهم ” و”جوازات سفرهم ” صريحة على حافة الطريق … هؤلاء هم “السفراء الجدد” إذن ….و” بتفويض إلهي ” ….
غادرنا الشام التي أحببناها وأحبتنا لتؤمّها جالية تونسية من نوع خاص – وعلى دين ملوكها ومقاس قادتها – جالية بلهاء عمياء، فجائعيّة الفكر والرؤية، تتكحّل بالظلاميّة وتلتحي بالقتل والتدمير تحت يافطة ” الجهاد” فتنسف رصيدنا المضيئ وتحوّل ما زرعناه من طيب العيش وبهجة المعرفة إلى يباب وكراهية تكشّر عن أنيابها وتتعدّى حتى قصّة الدب الذي قتل صاحبه حرصاً و”محبّة “.
“هل هؤلاء هم التوانسة الذين كنّا ننظر وننصت إليهم بشغف وإعجاب .. وينتقدون فساد النظام دون نسيان “أدب الضيافة ” ..؟”: تسأل صديقتي الفنانة السورية ….
لا سيدتي، أغلب الظنّ أنّ هؤلاء قادمون من قبل 814 قبل الميلاد، قبل القبلة التي طبعها الفينيقيون على جبين القرطاجيين في بحيرة المتوسّط ليؤسّسوا لأجمل الحضارات وأنبلها.
هؤلاء لا ينتمون إلى تسامحنا واحتفاءنا بالحياة يا سيدتي ولا حتى إلى نزقنا الثوري الزائد على اللزوم .
انظري إلى وجوههم الكالحة ولحاهم المغبرّة، إنهم يتأبّطون الأسلحة وليس الكتب التي عهدتها معنا، لا يمدّون أكفّهم للمصافحة بل للقتل والتدمير وخنق راحة الأبرياء وإراقة الدماء.
ما هذه البليّة يا الله … ماذا فعل بنا هؤلاء الحمقى ومن خلفهم المتآمرون على صورتنا البهيّة في بلاد الشام ؟ لماذا يريدون سحبنا إلى مستنقعات الحروب الطائفية والفتن المذهبيّة التي لا يرغبها شرفاء المعارضة، بعد أن عرفتنا دمشق على مرّ التاريخ حمائم للمحبة والسلام، سادة للفكر الحرّ والجدل المخصب والسجال المتدفّق وسفراء للقضايا العادلة، من طارق بن زياد الذي أضاف الأندلس جوهرة إلى تاج الشام، مروراً بابن خلدون الذي حاور فيها ببراعة “تيمورلنك “وغزاة المغول، إلى الشيخ محي الدين بن عربي صاحب “ترجمان الأشواق “، إلى الزعيم بورقيبة – وحتى معارضيه – ممّن كان يعرّف بالقضية التونسية في مقهى “الهافانا ” الشهير … والذي مازالت فناجين قهوتنا دافئة فيه إلى حدّ اللحظة … ونحن نتحلّق حولها متحدثين في الشأن التونسي الذي لم يفارقنا يوماً، وعلى مختلف أطيافنا التي جمعها حضن دمشق الدافئ.
أمّا عن العلاقة بين ” تونسيي دمشق ” ونظام الحكم في سوريا فيغلب عليها الطابع السلمي والمدني حتى لدى غلاة البعثيين والعاملين في مؤسساته الحزبية وأثناء الخلاف المزمن بين حافظ وصدّام الذين حاولا دون جدوى أن يختصرا دمشق وبغداد … في “بعث الأمويين” و” بعث العباسيين “.

23.09.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى