كتاب الموقعكلمة في الزحام

الساعة…وما أدراك ما الساعة…

نظر الإنسان إلى الساعة الشمسية في يوم غائم فانزعج واضطرّ عندئذ لابتداع الساعة الرمليّة، جلس ينظر إلى هذه الصحراء المحبوسة في الزجاج، يتأمّل الحبيبات المتقاطرة كمرجان المسبحة، يقلّبها في كل مرّة بيده ولم ينتبه إلى الزمن الذي أفناه و أفنى الساعة نفسها: الساعة البلوريّة التي خلقت أصلاً من الرمال…. قال المعرّي: (علّلاني فإنّ بيض الأماني فنين * والزمان ليس بفاني).
اخترع الساعة الدائريّة وجعل لها عقارب تلدغ العمر- لعلّه الحنين مجدّداً إلى الصحراء- وضعها قيداً فاخراً في معصمه يتباهى بها أمام الناس .
بعد التلذّذ بالسخرية من حياته القصيرة ابتدع الساعة الرقميّة التي تزوّغ البصر بعدّها التنازلي الذي تركض فيه الدقائق ثم الثواني وتتبعها أعشار الثواني كقطيع من السباع تريد الانقضاض على فريسة واحدة اسمها الإنسان.

هذه مشكلة الإنسان الذي يحب تقسيم كل شيء، من المسافات التي بدأت بالخطوات والأذرع والأشبار ووصلت إلى الكيلومترات ثم انتهت إلى السنوات الضوئيّة في مزج غريب بين الأمكنة والأزمنة .
وماذا بعد؟… نجوم تبهرنا نتأملها، نرعاها ونظنها مازالت على قيد الحياة وهي التي انطفأت منذ ملايين السنين ..! ما فائدة الحسابات حين يغيب المحسوب! … لو تعلم الساعات أنّ هي أيضاً لها عمر لأضربت عن الدوران وامتنعت عن قضم الزمن الذي سوف يسحقها مثل عقرب تحت قدم بعير في الصحراء.
أكره الساعات.. وحتى تلك التي جاءتني على شكل هدايا، لا أخجل من بيع الثمين منها و إهداء العادي و إتلاف المتواضع … بعد أن أخبر مهديها وأعتذر منه .

أنظر بتشفّ واضح إلى أحشاء الساعات وأشلائها وهي تتناثر على طاولة جاري الساعاتي العجوز، لكني أشفق عليه وهو يصلح ويعيد النبض إلى دقات سوف تهزم دقات قلبه .
لماذا يتباهى أصدقاؤنا السويسريون بصناعة وبيع الساعات والسكاكين والبنادق في متاجرهم ؟! هل لأنهم لم يعرفوا الحرب في تاريخهم ؟ أم أنهم يبيعون كل ذلك لغيرهم ويكتفون هم بما لديهم من بنوك وطبيعة وأبقار تطوّقها الأجراس….إنهم يبيعوننا الساعة والسلاح ، ثمّ يحتفظون بالوقت والسلام …. ألا يذكّرنا ذلك بالساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى الملك شارلمان وقد أخافت عقاربها المتحرّكة جميع من في القصر فهربوا و حسبوها عفاريت قادمة من بلاد العرب .. سادة العالم وروّاده آنذاك .

الساعات المنتصبة في ساحات المدن الكبرى مثلاً، ليست أقلّ عدوانية من تلك التي تسكن صالوناتنا أو تطوّق معاصمنا (عفواً معاصمهم)، إنها تذكّر المارّين والعابرين بقول الشاعر: (من سرّه زمن ساءته أزمان)، هذا ما همس لي به جرس (بيغ بين) في لندن حين مررت تحته، خصوصاً وأنّ تلك الساعة العملاقة التي كثيراً ما تغيب عنها الشمس وسمعناها في إذاعة (البي بي سي) قبل أن نراها تقع بالقرب من ساحة (الترافلزغارد) أي الطرف الأغر بلغة العرب ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر … أومن نطق بلسانهم، عاشرهم …. وربما ناصرهم كـ(لورانس العرب).

أخيراً هناك ساعة أخرى تدقّ أجراسها تحت الضلوع، لا تخلص إلاّ لصاحبها وتصمت معه وإلى الأبد وهي تلك التي يسمونها بالساعة البيولوجيّة … إنها تشبه ساعة(سانت اكزيبري) صاحب (الأميرالصغير) الذي سقط بطائرته في عرض البحر فوجد أحد الغوّاصين ساعته الفضيّة التي نقش عليها اسمه بعد عشرات السنين، تفحّصها جيّداً فوجدها صامتة حداداً على صاحبها…. وقد أعلنت عجزها على مقاومة الماء.

*كلمة في الزحام :

كلّ ساعات الدنيا كاذبة … ماعدا ساعة مدينة حمص الأسطوريّة … لكأنّها تعلن قيام الساعة.

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى