كتاب الموقعكلمة في الزحام

المتملّقون

المتملّقون .. بدؤوا يتوافدون على طاولة سيّدهم العامرة في أحد المطاعم الفخمة واحداً تلو الآخر، فرادى وجماعات، إناثاً وذكوراً، متزوّجين وعزّاباً، أرامل ومطلّقات … ومن كلّ الجهات والفئات.
كان كرسيّ السيد ينتظر صاحبه فارغاً في منتصف الطاولة التي ينظر إليها الجميع بشراهة مكبوتة وهم يلعقون شفاههم دون أن يتجرّأ واحد منهم على مدّ يده إلى صحن أو كأس قبل قدوم صاحب الوليمة …الذي سوف يعطيهم الإشارة ببدء الطعام.
لم يذق أي واحد منهم لقمة في بيته قبل المجيء.. كي لا يضعف من شهيته وليغنم أكثر ما يمكن من الطعام والشراب.
تأخّر السيد ولم يتجرّأ واحد منهم على السؤال عن سبب التأخير، لا بل بدؤوا يبرّرون له ذلك بزحمة السير وانشغاله الدائم في مشاريعه … وبدؤوا يدعون له بالنجاح والتوفيق في أعماله ومساعيه الخيريّة .
أثنى الأول على كرم صاحب الوليمة ومدح الثاني أخلاقه العالية، أطنب الثالث في الحديث عن مآثره وخصاله، تحدّث آخر عن مواقف لا تنسى من شهامته، لمّحت واحدة إلى أناقته وأخرى عن وسامته… و بتأييد من زوجها .
تأخّر السيّد أو (المعلّم) كما يحلو لبعضهم تلقيبه…. بدأت أمعاء بعضهم بالنقنقة، همّ أحدهم بمدّ يده على قرص من الكبّة وسرعان ما تراجع بعد أن تعالت الأصوات بنهره وتوبيخه فقال معتذراً ومبرّراً: (إنّما أردت أن أتحسّس سخونتها، خشية أن تبرد فلا تعجب “المعلّم”).
نشف حلق أحدهم من العطش ولم يتجرّأ على مدّ يده إلى كأس من الماء فاضطرّ للشرب من حنفيّة المغسلة خلسة، نظر أحدهم في ساعته، فنظر إليه الجميع شذراً واحتجاجاً على احتجاجه المفترض فاعتذر قائلاً: (أردت فقط أن أتأكّد من صحّة ساعتي)، همّ أحدهم بالتثاؤب وسرعان ما انتبه إلى هول فعلته أمام الحاضرين فحوّلها إلى ضحكة وتصنّع الابتسامة العريضة في مدح سيد الطاولة.
تعالت أصوات الحاضرين بالمدائح في ذكر مناقب الغائب الوحيد، صاحب الوليمة التي لم تبدأ بعد، صاروا يزايدون على بعضهم بعضاً … حتى أنّ أحدهم قد قال: (كم أحنّ إلى صفعاته و (طيّاراته) وبهذلاته لي) كما بكى آخر من شدّة التأثّر بمآثر صاحب الدعوة .
أمّا الشخص لذي لم ينبس ببنت شفة ولم يشارك في (وليمة) المديح فهو مساعده وأقرب المقرّبين إليه، كان دائم يتفحّص الموبايل ويتحدّث بصوت خافت وعبارات مقتضبة… رغم أنّ كلّ المدائح تحاول إسماعه وتخاطب ودّه، لعلّها تصل إلى صاحب الشأن.
فجأة، ومن دون مقدّمات دخل رجال وألقوا القبض على مساعد(المعلّم)، سحبوه إلى الخارج وسط ذهول الجميع.
جاء مسؤول المطعم وطلب منهم المغادرة فوراً لأنّ صاحب الوليمة قد ألقي القبض عليه بتهمة الفساد والغشّ والتزوير.
أمر الجراسين بسحب الأطعمة من فوق الطاولة واستعجل الحاضرين في الانصراف.
بدأ الجميع بتوجيه سهام الاتهام والشتيمة لصاحب الوليمة حتى أنّ الشخص الذي كان يفتخر بأنّ صاحب الوليمة كان يسلخه الطيارة تلو الأخرى قد برّر حديثه السابق بقوله: (لم أر في حياتي واحداً أكثر بطشاً منه)، عقّبت السيدة التي كانت تمتدح أناقته ووسامته بقولها: (أمّا أنا فلم ألمح في حياتي أبشع منه) …. وأيّدها زوجها بذات الحماسة .
قال الشخص الذي بكى حبّاً وتأثّراً: (إنما بكيت لحالي وللدرك الأسفل الذي وصلنا إليه حين عملنا في شركات ومصانع هذا الفاسد الأرعن المتجبّر المتبجّح).
حين وقف الجميع استعداداً للمغادرة فاجأهم السيد صاحب الوليمة بقدومه مبتسماً ومستفسراً في مكر: (لماذا تغادرون..! أنا آسف للتأخير يا جماعة، لقد كنت أوقّع عقوداً جديدة مع شركات أجنبية كي أوسّع من مجموعتي الاقتصادية وتتحسّن أحوالكم معي أيضا ).
عاد الجميع إلى الطاولة التي كانت عامرة بأصناف الأطعمة والمدائح….. ثمّ الشتائم … وأخبرهم بأنّ الأمر لم يكن إلاّ مجرّد مزحة منه على طريقة الكاميرا الخفية … وباتفاق مع معاونه الذي أسمعه كل عبارات المديح على الطاولة عبر الموبايل.
عاد الجميع إلى المديح ولكن-(ع الناشف) هذه المرّة .

كلمة في الزحام:

هؤلاء هم المتملّقون، أوغاد ولكنهم أغبياء، هؤلاء هم بعض أصحاب المال والسطوة ، أذكياء…. لكنهم أوغاد.

29.09.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى