تخاريف الفصل الخامس
تخاريف الفصل الخامس… أشعل غليونك بهدوء المنكسرين وأناقتهم واجلس إلى كرسي العمر عند رصيف الذاكرة وراقب ضجيج أطفال المدارس الذين كنتهم ,. والباعة المتجوّلين الذين أوشكت أن تكونهم والاصفرار الذي سوف تكونه غصباً عن كلّ ألوانك.
أسرج خيولك إنّه الخريف، أيها الشاطئ الذي أتقن اسمه بعد صخب الصيف، الصيف الذي خانه المصطافون والشجر الذي غادرته الثمار والطريق التي هجرتها الخطوات.
هو ذا فصل الفصول في السنة المستحيلة، طلقة مسدّس يعلن بداية السباق مع ظلّك في يوم غائم، هو ذا فصل الحواس عن الحواس، فصل الثياب عمّا يعلق بها من أجساد، فصل التعالي عمّا يصفون.
إنّه الخريف أيّها الخريف … قيل إنّ الخرف والخرافة قد اشتقتّ منك.. كلام تخريف لا يقوله إلاّ مخرّف في خريف عمره، ردّ الخريف.
دع عنك لومي يا سيّد البدايات وتعال إلى كأسي، أسقط شمسك الصفراء في قاعه كثمرة فاسدة و لنتصارح كزوجين من بعد الطلاق:
– لماذا تذكّرني بهزيمتي في كلّ مرّة..!؟
– وهل تريدني أن أذكّرك بانتصاراتك ..؟!
– كم مرّة يجب أن تأتي وكم مرّة يجب أن أموت!؟
– أنا لم آت، ليس لي مكان أو زمان كي آتي منه، أمّا الموت فلا أعرفه، صحيح، ما معنى موت؟
– معك حق، لا يسأل ميّت عن معنى موت.
– ماذا قلت؟
– لا شيء ..لا شيء.. كنت أهمس مثل ميّت.
– أريد أن أسألك: لماذا ينزعج الناس من قدومي مثل صوت منبّه في الصباح مع أنّهم يعيّرونه بأيديهم قبل النوم؟
– ننتظرك ونخشاك، نهابك ونكرهك ثمّ نتمنّاك مثل شيب، مثل واجب، مثل وظيفة… أنت جميل مثل كلّ الأشياء الحزينة أيّها الخريف.
– أنت حزين مثل كلّ الأشياء الجميلة .. صحيح ، ما معنى جميلة؟
– هي كل الأشياء التي ماتت دون أن يخبرها بجمالها أحد.
– إنّها الفصل الخامس.
-الخامس..! لا أعرف إلاّ ثلاثة وأنت رابعهم.
– خامس يعرف ولا يدرك، يصيد ولا يصاد، بحث عنه( فيفالدي) في موسيقاه ولم يجده.
– أنت تربكني أيها الخريف.
– إنّما جئت لأربك، أيها المغفّل مثل فراشة في الربيع .
…. لم يغادرني الخريف ولم يبرح دفاتري حتّى أزعم أنّه قد زارني في أواخر أيلول ولم يكن جاهلاً حتّى أدّعي أنّه قد هزمني على حين كأس ولم يكن خريفاً كما يجب حتّى أختفي وراء اصفراره.
كان خريفاً يختصر كلّ الفصول ويصفرّ كابتسامة حاقد منتصر، كسؤال يتثاءب و ينزف دون جواب.
مهلاً أيّها الخريف. ها أنا أواجه العراء بالعراء والخواء بالخواء. إنّ بي أوراق لم تسقط بعد وضجيج أطفال لم يطلق بعد وشمس لم تسقط في كأسي بعد.
إنّ بي نفس ينفخ في أشجارك فترتدّ إليها أوراقها، وفي الأوراق فتعود إليها حروفها، وفي الحروف فيسري فيها حبرها، وفي الحبر فيمسي نسغاً في الأوراق .
ما أصعب الوقوف بينك وبين الأشياء ككاف تشبيه، كمدرج رومانيّ في الشتاء، كمحارب دون معركة، كمخالب نسر محنّط.
ما أصعب الغضب دون صراخ والبكاء دون دموع والكتابة دون قرّاء والتعقّل دون سبب.
الزيتون لا يعترف بالخريف يا سيّد العراء و أوراقي لا تبعثرها رياحك لأنّها… مبعثرة وأنا لست زيتونة بل ظلّها بعد موتها.
ها هوّ الكرسيّ الهزّاز يتحرّك دون صاحبه، والغليون ينفث دخانه دون أصابع سيّده، والثلج يحنو على كأسه دون شفاه شاربه … أين الفصل الخامس الذي كان هنا أيّها الخريف؟
لقد حللت مكانه وها أنا ذا أشرب من كأسه و أتفرّج عليه في عيون الأطفال الراكضين نحو ورطة الحياة وأنفاس العشّاق المخدوعين وتزاوج السحب في السماء ودوران الدراويش تصدّع الإمبراطوريّة الأميركيّة: الأخطار المتعاظمة في حضرة مولانا جلال الدين.
مدد مدد، يا سيّد الوقت ويا أمير البهجة المستحيلة فكلّ عام وأنا أنتظر؛ كل عام وأنا الحلزون الغجري، يحمل وطناً لا يعرفه أحد سواه ويسلك درباً لا يعرفه أحد سواه، ويرحل عاشقاً بعد كلّ مطر.
كتبت ابنتي التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها بعد إعلان الضربة الأميركية على سوريا .. وصية … توصي فيها بأثوابها ، وكل ما تملك من قطع نقدية بسيطة الى بنات خالها، وصديقاتها اللواتي أصبحن خارج سوريا .. باعتبار أن الضربة
ستقضي على كل من في سوريا … ضحكت وأخذت الموضوع ببساطة.