تخيّلوا عالماً يحكمه الشعراء…!
تخيّلوا عالماً يحكمه الشعراء…! لو كان أبو تمّام يعيش بيننا لعيّنوه ملحقاً عسكريّا في سفارة عربية بالخارج… مكافأة على قوله: (السيف أصدق أنباء من الكتب..!؟) … أمّا صاحب الخيل والليل والقرطاس والقلم فيستحقّ لقب سفير بامتياز.
سألت مرّة أحد السفراء: لماذا عرف عن بعضكم- أو أغلبكم- كتابة الشعر في أوقات الوظيفة والمذكّرات في أيام التقاعد … متى تتفرّغون للعمل الدبلوماسي؟ّ!.
أجاب بدبلوماسية متوقّعة: ربّما نفعل ما يفعله العاطلون عن العمل.. نربّي الأمل.
-هذه العبارة لمحمود درويش وليست لك يا سعادة السفير.
-أعرف أيها المتسرّع، هل تريدني أن أجيبك بعبارة من عندي كي تحسب عليّ تصريحا رسميّاً !… وهذه نسخة من ديواني الجديد، لكنها دون توقيع أو كلمة إهداء…الإهداء لا يكون إلاّ للغرباء.
-هذه أيضا ليست لك، قرأتها في كتاب أحلام مستغانمي.
-نحن عادة ما نقول ما ليس لنا ونكتب في الشعر ما هو لنا … أظنّني قد أجبتك عن سؤالك الأول أيها المتسرّع.
غادرت مكتبه مسرعاً، وبعد ساعة رنّ الموبايل وجاءني صوت سعادته هادئاً ورصينا كعادته: (لقد نسيت نسخة الكتاب على الطاولة.. ألم أقل لك أنّك متسرّع مثل الذين يحكمون على أسماء الكتّاب من خلال وظائفهم قبل كتبهم).
فكّرت مليّاً في هذه الوظيفة وعلاقتها بالشعر، فكّرت في (بابلو نيرودا) وعمر أبو ريشة و صلاح ستيتيّة ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي وغيرهم من الذين مسكوا الحقيبة الدبلوماسية باليمين وكتبوا القصيدة باليسار.
فكّرت في أنّ لكلّ دولة – ولدى كلّ دولة أيضاً- بناء يرفع فوقه العلم وأرض (طائرة) اسمها الطائرة .. ورجال يتحدّثون باسمها وفق الأعراف الدبلوماسية والاتفاقيات الدوليّة.
فكّرت في أنّ تقديم أوراق الاعتماد يشبه قبلة- بالنيابة – من شفة بلد على خدّ بلد … وقد أقسم السفير على تبليغها قبل المغادرة وفق المراسم المعروفة.
الدبلوماسية هي أن يستفيد شعب بأكمله من علاقة أو علاقات شخص السفير.
الحكمة في الدبلوماسية أن تبعث بسفير أسمر(مثلاً) إلى بلاد سكّانها من السمر .. وقس على ذلك في مختلف المعتقدات والثقافات والأهواء والإيديولوجيات.
وحدهم الشعراء يتقنون هذه المهمّة، لأنّهم من قبيلة واحدة … وكل العالم بالنسبة إليهم قبيلة واحدة.
وحدهم الشعراء يتحدّثون بلغة وألسنة الملايين… ويقبّلون بشفاه تنوب عن الملايين ويصافحون براحة تربّت على أكتاف كل المتعبين.
الشعراء- كما السفراء- لا يكذبون، لكنهم يتجمّلون وتدمي أصابعهم الأشواك كي يقطفوا الورود لشعوبهم، يبتسمون للمتجهّم العبوس المكشّر… حتى يظهر رضاه.. ولو بعد جيل.
لو كان كل سفراء بلاد العالم من الشعراء لصارت خطب السياسيين قصائد وصارت نشرات الأخبار ممتعة… ورفرفت كل الأعلام على نشيد واحد … وربّما بحثت شرطة الحدود لها عن وظيفة أخرى.
لو كان كل سفراء العالم من الشعراء .. لأصبحت الجاليات من أهل البلد وانمحت كل الفوارق اللفظيّة… وألغيت السفارات…. ما
الحاجة إلى ((التمثيل الديبلوماسي)) حين يتواجه الناس بالحب والمصارحة!؟. ما حاجتك إلى من يتحدّث نيابة عنك … وأنت في حاجة للحب قبل الحديث.
قد يبدو الحديث طوباويّاً ومستحيلا ًحدوثه، لذلك أقصى أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة واعتبرهم دجّالين …. ولكن، ألم يكن أفلاطون ذاته طوباويّاً؟ كيف يقصي الحالم مجموعة الحالمين من حلمه… ويحتكره لنفسه !؟.
إذا كانت الدبلوماسية تعني:( كل شيء ما عدا لغة السلاح)فإنّ العسكريين يبرّرون وجودهم بقولهم : (لقد جئنا كي نصلح ما عجزت عنه الدبلوماسية).
هكذا يستمرّ الجدل قائما بين لغة السلاح ولغة اللسان، بين فرسان على ظهور الكلام وآخرين على ظهور الدبابات… ولا يلتقي الطرفان إلاّ في بيت المتنبّي.
لكنّ في الأمر سرّاً أظنّه بات مكشوفاً: وهو أنّ كلّ طرف يحاول أن يتباهى بما ليس عنده… وتضيع (الطاسة) عندئذ بين واحدة باردة وأخرى ساخنة.
لو حكم الشعراء العالم فلن يتغيّر شيء، سيتحوّل الصراع بين قصيدة التفعيلة والقصيدة النثريّة، بين معسكرات المدارس النقديّة … وبين قطبي شاعرين أبديين يدسّ الواحد جواسيسه لدى الآخر… دعونا نسمّيه (الاستقطاب الشعري).
*كلمة في الزحام:
لن تصبح الحرب باردة، بل دافئة بعض الشيء .. يكفي أنّ تقارير رجال الأمن تمسي قصائد والمحلّلون على الشاشات نقّاداً … وجوازات السفر دواوين…. واتحادات الكتاب مقرّات حزبيّة .