كتاب الموقعكلمة في الزحام

تونس….لا يليق بك الحداد…

تونس….لا يليق بك الحداد…  لم يكن صباح 23 اكتوبر 2011 في تونس يوماً اعتياديّاً في حياة شعب جعله النظام القمعي الفاسد متجهّماً وعبوساً رغم ما له من هبات الطبيعة وعطايا التاريخ والجغرافيا .
كدنا نقول “هرمنا ” وإلى الأبد، ردّدنا مع أبي القاسم الشابي قصيدة النبي المجهول ” في غضب يائس :
“أيها الشعب ليتني كنت حطّاباً فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سالت تهدّ القبور رمسا برمس ”

لكنّ نسغاً بدأ يسري في الأوراق بعد أن اقتلعت الجذور وقطعت الجذوع وكسرت الأغصان ……… جاءت الثورة وكأنها نزلت من باب العرش السماوي العظيم ….. فنبت الربيع على القبور المنسيّة، وتحوّلت الدموع المتحجّرة في المقل إلى لآلئ من فرح .

تورّدت الوجوه الكالحة والدماء المتخثّرة في الزنازين وسالت تصرخ ” حرية ” في العروق … استحالت إلى حبر بلون السماء يغمس فيه التونسيون أصابعهم المرتجفة نحو أوّل انتخابات حرّة نزيهة ومسؤولة تليق بأحرار قرطاج وأحفاد ابن خلدون وأبناء الشمس التي أقسم الأمازيغ ومعهم العرب على انتصارها .

كان الحبر الذي عمّدنا به أصابعنا صبيحة 23 اكتوبر2011 عسير المحو، مثل حنّاء ليلة عرس تونسي أصيل … وكان الواحد منّا يخرج من “خلوته” المقدّسة مشيراً بإصبع صريحة مخضّبة بذاك الحبر المقدّس إلى كل الأشياء التي صارت جميلة …. ويرفعها شكراً وتضرّعاً إلى السماء.

لم ننتبه إلى أنّ “خيانة ما ” تفوح من وليمة هذا العرس … ربما غطّت عليها نشوة الانتصار وبهجة الاحتفال الذي انتظرناه كما لم ننتظر أبداً.
عذراً شكسبير، اسمح لي بتحريف عبارة “هاملت ” قليلاً : ” ثمّة رائحة ما في مملكة الديمقراطيّة “، لا… أنوفنا التي عرفت الشموخ صبيحة هذا اليوم ليست مضلّلة …..” من هناك” ؟  ثمّة شبح يطلّ برأسه بين قبور الشهداء الطريّة وينبّهنا إلى “خيانة ما “.

تحصل المآسي عندما يكون كل شيئ على ما يرام …. أو هكذا نظنّه.
هل كان هذا الحبر “حنّاء مسمومة “، هل كانت طبول الفرح تقرع حرباً ضدّنا ونحن في ساحة الرقص… أم أنّ الأمر مجرّد تهيّؤات شكسبيريّة ونعيق عرّافات تونسيات.. وحديثات العهد بالفرح؟

لكنّ الغدر بشركاء الوطن بات واضحاً ويمشي في الشوارع متبجّحاً كفضيحة، فهاهم أبناؤنا يقتلون بنفس الأصابع التي شاركتنا وليمة الحبر في ذاك الصباح … إنها تضغط الآن على الزناد، تكبّر وتسمّي باسم الله.
هل صار قدر هذا العلم الذي اتفقنا على رفعه سويّاً، صار كفناً نلفّ به الجثامين ونحييه وهو منكّس ؟
تونس…لا يليق بك الحداد

العقي جرحك، وامضي – كما أنت دوماً – بشفاه يكتنزها الاحمرار لتقبيل الفجر ومسامرة الله.
تونس .. أنت التي قلّمت أظافر الرومان، هذّبت التكبير في حنجرة بلال، طرّزت برنس ابن خلدون ورصّعت صليب القدّيس (سانت أوغسطين) بالزيتون والسلام .

تونس … هرّبت الموشّحات من محاكم التفتيش إليها في صدر لا تزوره الأحقاد.
تونس … لا رسائل تتلى من سنام بعير الصحارى غير العطش فامضِ في صباحاتك الواعدة وجمالك الغريب مثل تعويذة أمازيغيّة .

نسور( الشعانبي) بلونهم الزيتوني هم حبّات الودع … لا يرسمون قدرك فوق الرمال ….  بل في الأفق .
تونس، لا يليق بك الحداد…  لكنّه سيّد الألوان…. وأنت سيّدة يا سيّدتي.

 

27.10.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى