كتاب الموقعكلمة في الزحام

حديث في العصبيّة و العصبيات

دخلت سيدة أرستقراطيّة موتورة عيادة متخصّصة للأمراض العصبية ,بحثت عن مقعد انفرادي و شاغر في قاعة الانتظار المكتظّة فلم تجده ,اضطرّت للجلوس إلى جانب امرأة بسيطة المظهر ,متواضعة الهندام و
سألتها وهي تهوّي بمروحة الريش ,تحرّك قدميها بعصبيّة واضحة وهي تنظر إليها بتأفّف :ما الذي جاء بك إلى هنا ؟!…لا تقولي لي إنّك جئت للتداوي …
وهو كذلك يا مدام …جئت –مثلك-للتداوي والمعالجة من داء العصب.-.

يضرب العصبي شو تشرشح !..عبارة همست بها السيدة الأرستقراطيّة لنفسها وهي في منتهى الإحباط ,ثمّ غادرت العيادة وقد استكثرت على تلك المسكينة مرضا تراه لا يليق إلاّ بالفئات(الراقية)من أمثال حضرتها.
من هنا تبدأ العصبيّة والعصبيات,في التفكير والسلوكيات والنزعات …قبل الشرايين والأوعية والارتجاف والنوبات ..
كيف لهذا الطبيب الذي غادرت عيادته تلك السيدة المتكبّرة أن يعالج داءها العضال ,دون الاستعانة بالحبوب المهدّئة والنصح بالإسترخاء واليوغا التي لم تنفع –حتى أهلها-(سكّان التيبت الصينيّة) من الدفاع المستديم عن عصبيتهم القوميّة والدينيّة..

تعدّدت أشكال التعصّب بين الأمم والشعوب ,اختلفت تسمياتها اللغويّة وتأرجحت بين الشوفينية والعنصريّة والتطرّف ….إلاّ أنّي أجد شخصيّا كلمة (العصبيّة) العربية ,أكثر التصاقا بالمفهوم المراد الذهاب إليه..
ابتدع ابن خلدون ,المغاربي الأصل (عذرا,هذه عصبيّة أفلتت منّي دون قصد) ,ابتدع هذا المصطلح كحجرة زاوية في بناء علم الاجتماع الذي كان للعرب شرف تأسيسه قبل (دوركهايم) ومدرسة فرانكفورت….عفوا,هذه عصبيّة أخرى أفلتت منّي دون قصد مرّة ثانية.

أين كنّا؟ ,في الحديث عن العصبيّة,أليس كذلك؟…نعم,,لقد جعلها ابن خلدون سؤالا محيّرا وسببا رئيسيّا في مفهوم الدولة منذ نشوئها حتّى أفولها..

تكفي نظرة واحدة وسريعة للتاريخ -كما الجغرافيا – حتى نعرف أنّ العصبيّة هي سبب كثرة الحواجز والنزاعات والتأشيرات وجوازات السفر في هذا العالم الذي يدّعي (التعصّب) لإنسانيته وتسامحه وتعايشه..
تكفي وقفة صمت واحدة أمام أيّ مقبرة للضحايا والأبرياء في هذا العالم الذي صرنا نخشى عليه يوما من أن يضيق صدره للمقابر أيضا..
العصبيّة هو أن أعتقد بأنّي أحسن منك ,دون أن أعطي تفسيرا لذلك , إنها تبدأ من عدم احترام الطابور أمام شبّاك مؤسّسة عموميّة…وتنتهي باحتكار الهواء لي وحدي مع نسلي دون غيري ,لسبب واحد ووحيد ,وهو أنّ شيطانا خنّاسا قد وسوس لي يوما هامسا: إنك الأفضل..
يكفي أن نقتنع يوما بأنّ الطريق تتّسع للناس جميعا وأنّ إشارة المرور تفتح للراكب كما المترجّل بالتساوي …وأنّها ليست متآمرة ضدّنا حتى تعطي الأخضر لزيد والأحمر لعمرو..
لو كانت السيدة الأرستقراطيّة تحسّ بحجم معاناة تلك المرأة الفقيرة كما تحسّ بمعاناتها الشخصيّة لتعاطفت معها ,بل وأعطتها دورها للدخول قبلها للمعاينة لدى طبيب العصبيّة …أمّا إذا كان الأخير يفرّق بين مريض ومريض ,فعليه أن يبحث هو الآخر عن معالج لهذا الفالج الذي بدأ ينخر أعصاب مجتمعاتنا..
إن لم تفلح المسكّنات في معالجة الأعصاب التالفة ,فاسأل أطبّاء الأسنان في ضرورة استئصالها ….ومن كان بها حكيما في الموانئ والمطارات ومدن الاغتراب وقاعات الانتظار…انتظار التعايش والأمن والسلام الدي يمارس بدوره”عصبيته” فيزور قوما ويتغيب عن أقوام أخرى..

18.11.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى