حقائب وأفكار وأوطان ….
حقائب وأفكار وأوطان …. قد تشي محتويات الحقيبة بتوجّهات صاحبها، لكنّ عدم وجود سجّادة صلاة مثلاً، لا يعني أنّ صاحبها غير متديّن، كما أنّ بعض الهدايا والمقتنيات لاتعبّر بالضرورة عن أهواء حاملها… فالديك يعلن الفجر ولا يصلّيه .
بعض الحقائب مضلّلة لرجال الأمن والجمارك كتلك الطرفة التي تتحدّث عن واحد يدخل معبراً حدوديّاً على ظهر دبّابة ويفتّش الحرس في خاصرته للتأكّد من أنّه لا يحمل مسدّسا.
حقيبة المهرّب تهتمّ بكلّ ما خفّ حمله وغلا ثمنه، كيس اللص “المبتدئ “: يحوي أشياء لا يجمعها أيّ رابط غير ما وقع عليه نظره وامتدّت له يده، أمتعة النازح والمهجّر: تضمّ أسمك الثياب والذكريات، شنطة المثقّف تضيع في المحطّات والمطارات والمقاهي، لكنهم يعيدونها إليه في كلّ مرّة … إنها في منأى عن عيون اللصوص ومطامعهم، مثل أكياس مروّضي الأفاعي وأهل الكدية وعاملات التنظيف ….أمّا حقائب العشّاق فتعرف لدى رجال الجمارك بأنّها عديمة الفائدة وتافهة المحتويات رغم حميميتها ودفئها لدى أصحابها.
… لكنّ الذين لا يحملون حقائب هم محيّرون دائماً ومثيرون للريبة والشكّ، مثل النكتة الفرنسيّة التي تتحدّث عن سائق تاكسي وقف مذهولاً أمام فتاة شبه عارية تطلب منه إيصالها إلى وجهتها، ظنّت الفتاة أنّه معجب بقوامها، لكنّه سألها في حيرة: بربّك، أين تضعين محفظة النقود !؟.
قال ذلك ليطمئنّ قلبه ويضمن الأجرة، إذ لا وقت لديه للاهتمام بأهوائه الذكوريّة والغريزيّة …وكذلك تفعل كاميرات المراقبة والكلاب المدرّبة على اشتمام الثياب في مطارات العالم … ولكن، من يراقب ما تحتويه الرؤوس و النفوس… ويشتمّ نسائم ربيع يختبئ في صقيع الشتاء؟
كيف السبيل إلى معرفة ما خطّ وخطّط له تحت شعر رأس “المملوك جابر ” في مسرحية سعدالله ونوس وفي كأس(دافنتشي ) الشهيرة و رموز حرّاس الهيكل وغيرها من “الشيفرات” التي تخترق بسرّيتها عتاة العسس والعيون عبر التاريخ…. وتتنقّل دون حاجة إلى الحقائب.
كم (قارئ أفكار) يجب أن يوظّف في نقاط التفتيش حول هذا العالم الذي تفوح منه رائحة الخوف، هل تنجح حضارة الغرب في اختراع جهاز يمرّر فوق الرأس وعند جهة القلب للتأكّد من خلوّنا من(أنفلونزا) الأفكار والآمال والمعتقدات.
هاجر نبي الإسلام إلى يثرب ليبلّغ رسالته بعد أن نام في فراشه فتى مقدام اسمه علي بن أبي طالب، رقد رفاق(يمليخا) في الكهف مع كلبهم (قطمير ) قروناً من الزمن وكانت الشمس تعلن انتصارها واستمرارها في كبد السماء، قطع صقر قريش الأنهار والبراري ليؤسّس لفكرته في الأندلس ويعيد إشعال جذوة بني أميّة …. ومن الأندلس نزح العرب إلى الشمال الإفريقي وهم يهرّبون في صدورهم الموشّحات وكل ما غلا ثمنه من الفكر والحضارة التي بحثت عنها محاكم التفتيش دون فائدة .
ما أنبل الأفكار التي غفل البشر عن تداولها في البورصات النقدية ولم يضعوها في حقائب السفر وامتنعوا عن التصريح بها في الموانئ والمطارات… ما أخفّها وما أثقلها..!
إنّما الأمم الثقافات ما بقيت، فشكراً للذين جعلوا من أجسادهم وأرواحهم درعا وحصناً للمتحف الوطني المصري أمام فلول النهب والمتاجرة بالذاكرة داخل الحقائب المهرّبة .
شكراً للشرفاء من السوريين الذين مازالوا يدقّون ناقوس الخوف على موروثهم الحضاري بيد ويمسكون بأطفالهم وأرواحهم باليد الأخرى وهم يواجهون رصاصا يستهدف البشر والحجر.
كم من الأمم التي انهزمت عسكرياً لكنها انتصرت ثقافياً.
عفواً، أبا تمّام، إنّ الكتب هي التي في حدّها الحدّ بين الجدّ واللعب، لأنّ السيوف تصدأ أمام التاريخ … لكنّ الأفكار تعمّر وتورّث بالغريزة تحت الجلد.
إنّ سرّ صمود أرض كنعان أمام حفنة من المهجّنين هو آلاف الأعوام من الحضارة في بلاد الشام وأرض فلسطين التي مازالت قصائد شاعرها محمود درويش تسيل دموع الحنين قبل دموع قنابل الغاز.
قال مبدع مغبون في بلاد عربية لأحد المسؤولين حين رفض استقباله: (أنا أبقى منك، لأن الأجيال ستحفظ اسمي، أما أنت فتسقط بمجرّد جرّة قلم من رئيسك في العمل …. الذي سيسقط بدوره يوما بكلمة “ارحل ” ).
كنت ولا زلت بعيداً عن السياسة، لم ولن أمتهنها يوماً، تركتها لأهلها، ذلك أنها تعني في أرقى حالاتها: مسؤولية الفرد تجاه المجموعة … وهي شرف لا أدّعيه.
لكني أعترف بأني (حيوان سياسي) كما يقول أرسطو، إنها تعود إليك من الشباك إن أنت أخرجتها من الباب … فلا ينكر عربي أنه لا يتابع القنوات الإخبارية كل صباح ويدمن عليها أكثر من القهوة وفيروز… كيف لا وهي المختبئة في طعم القهوة ومزاج الأغنية .
متى نعود إلى حياتنا الطبيعية أيتها القنوات الإخبارية؟ أعطونا وقتاً لسقاية الزهور ومحاورة أطفالنا وسماع الأغاني العاطفية … والاحتفال ب(السان فالانتاين).
سؤال في عهدة كل الناس …عفواً، كل الحكّام … ولكن، ما مفهومنا لـ(الحياة الطبيعية)؟! … أظن أنّ السياسة قد عادت تدق من زجاج النافذة بعد أن توهّمت بأني أغلقت في وجهها الباب …. الباب الذي يدخل منه الهواء و الفواتير أيضاً.
كلمة في الزحام:
أعترف أن حقيبتي الصغيرة ما زالت كعادتها… لا تحوي إلاّ جواز سفر وفرشاة أسنان … وشمسية غالباً ما أضيّعها في النهارات الماطرة ثم أعود لأجدها في أيام الصحو.
16,09,2013