كتاب الموقعكلمة في الزحام

شعب يستحقّ التحية

شعب يستحقّ التحية
-” صوت السوري الأوّل على الهاتف: كيف مات جارك ؟
– صوت السوري الثاني: بقذيفة هاون، أصابته براسو
– صوت السوري الأول: منيح انّو ما اجت بعينو ..الله ستر يا زلمي …”
هذا نموذج “لغيط من فيض ” تطفح به تعليقات السوريين و”نوادرهم ” على صفحات التواصل الاجتماعي … إنها طريقتهم للبقاءعلى قيد الكتابة والأمل والحياة التي يتقنونها جيداً كأعرق وأعظم شعوب العالم.
كان الأجدر بالأكاديميّة السويديّة أن تمنح جائزة نوبل – مخترع البارود- إلى أكثر الشعوب تحمّلاً وصبراً على اختراعه المشؤوم .. إنه الشعب السوري الذي يحتفي بالحياة في كل فرصة يستطيع إليها سبيلاً …ولو بين قذيفتين.
إنه الشعب الذي يلقّن الانسانيّة درس حضارة في كلّ لحظة همجيّة وصمت وتآمر: فهذا رجل يغامر بحياته لإنقاذ قطّة من حريق يسبّبه صاروخ عابر للضمائر، وتلك امرأة تتقاسم ما تبقّى من الماء مع النباتات المنزليّة، هذه صبيّة تخرج لملاقاة حبيبها تحت القصف، وذاك كهل يغالب جراحه كي يوصل الخبز لأطفاله قبل أن يسلّم الروح لباريها، هذه سيدة تقتطع بعض المال لتحويله إلى فلذة الكبد: ابنها الطالب في الخارج، ذاك عازف كمان مع صديقته الرسّامة يصنعان الجمال تحت الأسوار المتهالكة، هذا طفل يقوم بفروضه المدرسيّة أمام بسطة تسترزق منها العائلة، وهؤلاء شبان يناشدون الأمل، يستنهضون الحياة ويؤدّون رقصة” زورباويّة ” في الهزيع الأخير من الليل والتحدّي .
جعلت الحاجة السوريين مخترعين ومبتكرين من الطراز الأوّل، يسخرون من”الفريد نوبل” ويتحدّون اختراعه المشؤوم، بل يحوّلونه إلى مادة للحياة كذاك الذي جعل من ظرف القذيفة الفارغ آنية لحفظ الزهور وتربية الأمل.
عزّز قطع الكهرباء تعلّقهم الدائم برومانسيّة الشموع وإنصاتهم المزمن لفيروز– دون الأخبار – من أجهزة هواتفهم المحمولة …وسيلتهم الوحيدة للقول بأنهم مازالوا على قيد الحياة .
ليس الأمر مغازلة للحرمان ومواساة للفجيعة، لكنّه الإعجاب بشعب يرفض أن يموت وينحت في الصخر كهوفاً آمنة لحياة موازية.
.. ولأنهم تفطّنوا باكراً بأنّ الكثير من القذائف تفرّق قصداً وعمداً بين صليب وهلال فإنهم دقّوا ومازالوا يدقّون أجراس خطر الفتنة فترى في صفحات التواصل الاجتماعي “أبو محمد ” يوقّع ويعلّق ويرسل الأخبار باسم “أبو جورج” …وكذلك العكس.
كشفت الحالة السوريّة النوايا المبيّتة التي تدور في خلد أصحابها من الأعداء والأصدقاء ووضعت كل الناس على المحكّ وفي أنابيب الاختبار فصمدت وتألّمت وتهجّرت أكثريّة أصيلة وصادقة ومحقّة … وسقطت أقليّة فاسدة وطائفيّة من كل الأطراف حين استنجدت بمرجعيات خارجية ومشبوهة واستباحت دماء شركائها في الوطن.
يعلم السوريون الذين أنجبوا حكمت محسن ونهاد قلعي ومحمد الماغوط وزكريا تامر وغيرهم من أصحاب الضحكة المرّة والنكتة الهادفة أنّ ياسمين دمشق تحميه الأشواك وأنّ الحبق المسجون في الشرفات لا بدّ أن تمتدّ له الأكفّ بالهزّ والإثارة كي يعلن عطره.

كلمة في الزحام :

“-الأول: كيف الأهل؟
-الثاني : ماشي الحال … بعدهم بنفس التربة………………..”
لكنها التربة الحنون والمعطّرة برفات العظماء والصالحين … والتي تعطي وتضم.

30.10.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى