شهيد عند زيد , قتيل عند عمرو
شهيد عند زيد , قتيل عند عمرو … لا يفرّق حفّار القبور بين (جثّة) و(جثمان) إلاّ بقدر ما يتقاضاه من أجرة، كذلك الأمر لدى صنّاع التوابيت وخيّاطي الأكفان وبيّاعي الأعلام والرايات …لا تختلف درجة الحرارة في برّادات الموتى بين اسم وآخر …و تنقضّ الطيور في ساحات المعارك على جثث القتلى من الطرفين بذات (الشهيّة) والحماسة … ودون أن تسأل عن عدالة القضيّة أو بطلانها.
كل قضيّة في نظر أصحابها هي عادلة بالضرورة، رابحة لا محالة.. بل ومقدّسة في أغلب الأحيان، لذلك – وبناء على ما تقدّم – يجلّون من مات في سبيلها، فيعلنونه شهيداً ترفع له التحيّة وتطلق له المدافع، تمجّده الأناشيد، تكرّمه النصب التذكاريّة ويطلق اسمه على الشوارع والساحات والحدائق ومختلف مؤسّسات الدولة المدنية والعسكرية و…….. ماذا بعد؟
ليس بعد هذا كلّه إلاّ حقيقة واحدة : وهو أنّه في عداد الأموات وفق منطق الطبّ والطبيعة، وبرغم محاولات تخليده، أمّا الصفة التي مات عليها فيحدّدها القاموس البشري بنواميسه الأخلاقية والعقائديّة المعروفة بالتنوّع والاختلاف والتضارب .
ربّ شهيد مفدّى لدي زيد كان قتيلاً هالكاً لدى عمرو، وكم من مقبرة للغزاة زيّنتها الزهور وسكنتها رهبة الخشوع لدى الأهل والأحفاد صارت في بلاد أخرى مكبّاً للنفايات ومتاهة للقطط والكلاب الضالّة.
هذا ما يجول في خاطري وأنا أقف الآن في كنيسة (سان لويس) المطلّة على البحر في ضاحية قرطاج التونسية وقد تحوّلت إلى فضاء ثقافي لكنّ رائحة بناتها الصليبيين مازالت تعمّر المكان وهي المسمّاة باسم قائد الحملة لويس التاسع الذي هلك مع جنده بوباء الطاعون ثمّ طوّب فيما بعد قدّيساً تقرع له الأجراس وتقام له التراتيل والصلوات .
هي مفارقة غريبة ، لكنّ الأغرب منها والأكثر إدهاشاً هي هذه الأرض التي تضمّ تحت ترابها رفات كل الأضداد وتذكّر بقول أبي القاسم الشابي على لسانها :
(وقالت لي الأرض لمّا سألت أيا أمّ هل تكرهين البشر ؟
فلا الأفق يحضن ميت الطيور ولا النحل يلثم ميت الزهر
ولولا أمومة قلبي الرؤوم لما ضمّت الميت تلك الحفر).
نعم، إنها الأرض التي يقتتل فوقها من رسم الحدود والخرائط (فوقها)، ثمّ يعودون إلى حضنها شهداء وقتلى وهالكين لكنّهم – ومن دون استثناء – ضحايا غدر الذات البشرية وجشعها.
إنها الأرض التي تسخر من الذين ينقلون رفات أمواتهم من (وطن) إلى (وطن) ولا يعلمون أنّ ترابها واحد، وهي التي بكت في القصّة المعروفة عندما لم تتسع لقبور جماعة قضوا نحبهم في الاقتتال لأجل قطعة منها .
تتجوّل في مدن أقاليم شرق آسيا فتلمح تماثيل (تيمورلنك) و(جنكيز خان ) و(هولاكو) وغيرهم من الذين أحرقوا بغداد وألقوا بكتبها ومخطوطاتها إلى دجلة التي سالت منها دموع سوداء، لكنّك سرعان ما تستدرك وتقول لنفسك :هم أبطال قوميون في نظر شعوبهم.. فتكتفي بالتفرّج والاستمتاع بجماليّة النحت ودقّة التشريح.
تقتفي آثار اسبانيا فيعييك التفريق بين صليب وهلال، ثمّ تستسلم للفرجة الآسرة وقد تمثّلت هويّة الجمال وحده دون أن تشتم ملوك قشتالة أو تتحسّر على أبي عبد الله الصغير أو تدّعي نسل صقر قريش … يكفيك روعة قصر الحمراء وعمارة (غاوودي) ولوحات (ميرو) و(دالي) وقصة حب الولاّدة وابن زيدون، قصائد (لوركا ) وكتاب (طوق الحمامة).
تنسيك فنون باريس بشاعة الاستعمار كما ينسيك مسرح الانكليز دسائسهم وأطماعهم، كذلك يفعل بك الأدب الروسي الذي ساهمت فيه ب(بوشكين الحبشي) والأمريكي ب(جبران اللبناني) و(ادوارد سعيد الفلسطيني).
هكذا تتراجع الأحقاد عندما يتقدّم الجمال، تخفت أصوات البنادق عندما تصدح أصوات الحرية والإبداع، أمّا الأموات فدعوهم يستريحون بمحاسنهم وخطاياهم، بمثالبهم ومناقبهم، دون تصنيف ، إنهم في ذمّة الخالق، أو ليس من الشرك بالله أن نحلّل أو نحرّم، نكفّر أو نجلّ، نقدّس أو ندنّس كما تحلو لنا الذائقة وتقتضي المصالح…؟!.
ليس في الأمر تطاولاً على قيمة الشهادة والشهداء وإنما دعوة إلى عدم الزجّ بالأموات في بورصة السياسة والعصبيات الدينية والقومية، أمّا الذين ماتوا كي يعيش الآخرون بسلام وكرامة وهم رافعي الرأس .. فلهم ترفع القبعات والأنخاب والدعوات بالرحمة والراحة الأبديّة.
*كلمة في الزحام :
عاد بعد غيبة طويلة والتقى بأحد المستكرشين الجدد وسأله : من أين لكم هذه النعمة، ومن هؤلاء الذين على مائدتك ؟
– أولا هذه ليست مائدتي إنها مائدة الشهيد وهذا ابن خالة عم زميل الشهيد، بنت صهر جار الشهيد، زوجة عم خال الشهيد، ابن زوجة صديق الشهيد بالتبني …
– وأنت؟ (مقاطعا)
-أنا أحمل جنسية الشهيد رحمه الله.