عقوبة الإعدام وأروقة الموت
عقوبة الإعدام وأروقة الموت .. أتيحت لي فرصة الالتقاء بأحد الذين حكم عليهم بالإعدام في قضيّة رأي ثمّ شمله العفو التشريعي العام في تونس بعد الأحداث الأخيرة.
لست أدري إن كنت محظوظاً في هذا اللقاء الأعجوبة والتحدّث إلى شخص كان يرتدي بدلة الإعدام الزرقاء والوحيدة طيلة عشر سنوات , يحاور النمل والخنافس والجرذان في خليّته ويتحسّس رقبته كلّما سمع صرير الأبواب واقتراب خطوات الموت في الممرّات الموحشة كلّ فجر.
هل قلت (كلّ فجر) …نعم كلّ (فجر) يأتي وفي كلّ لحظة، ذلك أنّ الشمس التي ودّعها وهي في كبد السماء نحو الأقبية الرطبة والجدران الرمادية، لا يعلم أين هي الآن، مشرقة أم غائبة……… أمّا معصمه الذي كانت تطوّقه دقات الساعة فقد استبدلها بزرد السلاسل، حفيف القيد ونبضات قلبه المهرولة نحو صمتها الأبدي.
هو يعلم علم اليقين أنّ الجامع الذي يعلن صلاة الفجر في حيّه البعيد سوف يعلن إعدامه ذات صباح … هذا الصباح الذي لن (يصبحه) يوماً ولا يقرّره إلاّ روتين أوراق المحاكم ونزوة قاض وتأهّب منفّذ (عشماوي).
خيّل لي وأنا أحاور هذا الميّت الحيّ أنّي من جماعة المهووسين باستحضار الأرواح والمولعين بغريب الأحداث والأحاديث.
كان صديقي يتحدّث ببطء وهدوء غريب _ لم الاستعجال ؟! _ وهو الذي صبر على الصبر نفسه … لكنّه مفرط في الملذّات الشخصية العابرة والتي تبدأ بالتدخين والشرب والسهر والمراهنة على خيول السباق حتى تصل إلى التهام الكتب والأفلام والمسرحيات.
كأنّه ينتقم لتلك السنوات التي قضمت من حياته ظلماً ويثأر لجسده الذي دمّره الحرمان والإهانة… ولروحه التي كانت معلّقة في صرير المفاتيح وقرع الأبواب وعاشت مسحوقة تحت أقدام السجّانين وخطواتهم الذاهبة نحو حتفه … كأنّه يريد لشعره الأبيض أن يرتدّ أسود وكثيفاً دون أصباغ أو مستحضرات.
الحكم بموت بشر على يد بشر ولجريمة يقرّرها البشر مسألة مفزعة وتتخطّى أبعادها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. إنها تحتاج إلى عمر من التفكير(المؤبّد) في منطق الشرائع السماوية والوضعيّة وتطرح السؤال الأكبر: (من أنت حتى تحكم بفناء إنسان وإبادة نسل وإجهاض أحلام؟).
صديقي الذي كان يلبس بدلة الإعدام الزرقاء ويقاسمه في ارتدائها جميع الحشرات الزاحفة والطائرة لم يكن ثمرة فاسدة حتى يقرّر البائع استبعادها من الصندوق .
المجتمع ليس صندوقاً ينغلق على نفسه، بل مجموعة صناديق تخفي وتظهر ولا تحوي لوناً واحداً من الثمار … أمّا الأبعد من ذلك كلّه فهو السؤال الأخطر: من أعطى المشروعية لهذه اليد التي تمتدّ إلى (الصندوق) وتزعم أنّها قادرة على تنقيته من الفاسد والمعطوب ..؟!.
يبقى أن نشير إلى أنّ الحكم بالإعدام لا يقتصر على أروقة المحاكم وزنازين الإيقاف ومطارق القضاة في مجتمعاتنا، بل على جماعات تقتحم (الميدان) وتمارس سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وحتى الإعلاميّة دون رادع أخلاقي وبإيعاز من أفراد ودول نصّبوا أنفسهم ولاّة في مملكة السماء.
*كلمة في الزحام:
شكراً صديقي الذي أفلت من حبل مشنقة مازال متدلّياً، ينتظر رقبة جديدة دون وجه حقّ… الحقّ في الحياة التي وجدت كي نختلف فيها ونحبها…. لنقل جميعاً وبصوت واحد: نحن ضدّ عقوبة الإعدام.