قادتني قدماي …وقلبي ورأسي…
قادتني قدماي …وقلبي ورأسي… كنت أظنّ الصلاة مجّانيّة وغير مكلفة – كيف لا، وهي التقرّب إلى الغنيّ القدير دون وساطة أو محسوبيّة أو طوابع ماليّة – إلى أن قادتني قدماي ظهيرة يوم جمعة بصحبة أحد السلفيين إلى الجامع الوحيد بإحدى الضواحي المرفّهة في العاصمة التونسيّة.
لن أجيب الآن على السؤال الذي قد يدور في خلد من يعرفني: ( كيف قادتك قدماك، ولماذا برفقة سلفيّ!؟)….
المهمّ أنّي رحت، خلعت نعليّ، توضّأت وتربّعت في الصفوف الأماميّة أنصت إلى خطبة (سماحته) وهو يتوعّد رفاقي العلمانيين واليساريين والليبراليين بجهنّم و بئس المصير، بل يحمّسنا على الجهاد فيهم ويحرّضنا عليهم في الدنيا قبل الآخرة … ولا يعلم أنّي (مندسّ) في صفوف (زبائنه الورعين) … لكنّي – والله يعلم – أنّي كنت أعزلَ إلاّ من إيماني بالله والمحبّة والحوار.
قضيت الصلاة، وقبل أن ننتشر في الأرض ويمضي كل مؤمن إلى تجارته، جيء لنا بصندوق قيل أنه (بيت مال المسلمين) وطُلب منّا أن نساهم بما فيه النصيب خدمة للإسلام والمسلمين … ودون أن يوضّحوا نوعيّة هذه (الخدمة) .
مددت يدي إلى جيب بنطالي الجينز بصعوبة واضحة فأحسّ أحد السدنة أنّي ربما أكون متململاً وقال لي: (إن لم يكن لديك “كاش موني” فلدينا جهاز استخلاص رقمي من بطاقتك الائتمانية )، شكرت لباقته ثمّ ساهمت بـ (مافيه النصيب) خدمة لـ (بيت مال المسلمين) .
سألت مرافقي السلفي في الطريق: إلى من يعود ريع عائدات الصلاة هذه ؟ استنكر صيغة سؤالي وطالبني بتصحيحه ثمّ ردّ: (إلى المسلمين من أمثالي، لقد كنت قبل الهداية بلا عمل وزوجة وغاية، إلى أن فتح الله قلبي للإسلام ووجدت إخوة لي في الدين يمدّونني بما أنعم به الله عليهم فأنشأت هذه العربة المخصّصة لبيع العطور والمسابح وكتيبات الأدعية، ادع لربّك يهديك وادع لي أن تتوسّع تجارتي ونحجّ سويّا إلى بيت الله الحرام).
مسح على ظهر يدي بعطر غريب الرائحة وناولني كتيّباً ينزف أدعية ما أنزل بها الله من سلطان… ثم مضى إلى(تجارته) وتركني وحدي قائماً متجهّماً وأواجه آلاف الأسئلة في سؤال واحد : ( من هؤلاء وماذا يريدون ؟!) .
سألت جاري (أبو نواس) …- نعم ,هكذا يلقّبونه – سألته عن حكاية مرافقي السلفي صاحب عربة الأدعية والمسابح والعطور الغريبة ، فقال لي أنّه كان من (رفاق السوء) وأصحاب السوابق قبل أن يقذف الإيمان في صدره وهو في سجنه بعد ثورة الربيع العربي، وذلك بفضل أحد الدعاة الزائرين، والذين كان (ابن دعوته أو ربطيته ) … أي زميله خلف القضبان ومن أصحاب السوابق الذين هداهم الله.
أعترف أنّ هذا النهار الطويل من هذه الجمعة الحزينة قد فتحت عينيّ الصغيرتين على أشياء كنت أجهلها، أوّلها أنّ الصلاة في أعرافهم ليست مجّانيّة، بل مقابل مبلغ يذهب في أحسن حالاته إلى عربة الأدعية والروائح والمسابح … وفي أسوأ حالاته، إلى ما نشاهده ولم نشهده من صور القتل والفتنة والدمار.
ثانيها أنّ الأسلوب المدروس والمتقن والممنهج في تدمير مؤسسات الدولة قائم على أكثر من قدم وساق و(منبر) ، يبدأ بالضريبة الموازية وعظة المسجونين للمسجونين في السجون … وينتهي إلى إقامة (جمهورية الظلام ) وإعلاء رايات التخلّف.
ثالثها أنّ المتتبّع لتاريخ دولة اسرائيل يعرف أنها قامت على هذا الأسلوب الاستنهاظي والابتزازي عبر اقتطاع الضرائب في دور العبادة بقصد إبادة شعب آخر.
*كلمة في الزحام :
كيف قادتني قدماي إلى هناك ولماذا برفقة سلفيّ ؟ هذا السؤال يجيب عليه عمل سينمائي سوف يرى النور قريبا وأحضّر له في تونس…. ويكون الإهداء إلى عربة البوعزيزي وحدها، وليس إلى عربة الأدعية ومن يجرّونها.