كيف نحيّ العلم وهو منكّس…
كيف نحيّ العلم وهو منكّس… حضرات القادة وكبار الضبّاط في الجيش الوطني التونسي، هل من البديهي أن أذكّركم – وأنتم تعلمون قبلي – بأنّ الكمين هو الدرس التطبيقي الواضح لمفهوم :(الحرب خدعة ) عبر استدراج العدوّ – وهو آمن مطمئنّ البال – إلى ما لا يتوقّعه من هزيمة مباغتة، دون تكلفة وخسائر تذكر، بل وتكسب الفاعل غنائم ماديّة ومعنويّة ترجّح كفّته في المعركة، تربك الضحيّة الخصم وغالباً ما تزعزع ثقته بنفسه…. هل هذا ما حصل فعلاً عشيّة ذلك الإفطار الرمضانيّ المغمّس بالدم.
أيها السادة، أنتم تعلمون أنّ جبل (الشعانبي) الذي يحرس حدودكم الغربية مع الشقيقة الجزائر هو أعلى قمّة تونسية في الجغرافيا الطبيعيّة، أي (1544) متراً على سطح البحر الذي تصارع أمواجه مراكب هجرة الموت المتهالكة نحو ضفاف الشمال، كما تمخر عبابه سفن التجارة الكاسدة والسياحة الباهتة والصيد الجائر هذه الأيام
أمّا عن الجغرافيا السياسيّة والبشريّة فجبل (الشعانبي) أيضاً، يحتضن في سفحه مدينة (القصرين) وما جاورها من البلدات التي لم تبن لها الثورة غير نصب الشهداء ولم يقطفوا من إنجازاتها سوى البؤس المتسكّع مع جحافل المعطّلين عن العمل صباح كل خازوق يدقّ في سفل الثورة من طرف المتكلّمين باسمها.
صحيح أنكم تدافعون عن علم يقاوم لونه النسيان والتهميش بالدم المستباح وسط الرايات السود وسناجق الأحزاب وبيارق الفتنة الماجنة التي تطلّ برؤوسها من كلّ حدب وصوب … لكنّي أكاد أشكّ في أنّ فطوركم كان معفّراً بالخيانة في الشهر المقدّس…وأنّ (يهودا الأسخيروطي) كان يتجوّل بينكم ليبيعكم بثلاثين من فضّة في سوق النخاسة الثوريّة.
ربّي اجعلني مخطئاً فيما ذهبت إليه وبدّد شكّي باليقين الذي نريده … وهو أنّ هذه المؤسسة العسكرية المتفانية في تقديس تراب نتمنّاه طهر من صلّى ألا تنجرّ إلى فتنة يحاول شياطين الأرق إيقاظها.
هؤلاء الذين يرتدون لون الزيتون ويحرسون حلم الحالمين، هم الذين لم يغادروا أسوارهم إلاّ قليلاً ليعودوا إليها طيلة عهد الاستقلال وفي أشدّ الفترات حرجا حين كان المغفور له العقيد القذافي يريد إلحاق تونس كفصل من فصول كتابه الأخضر ويسخر من جيش تونس بقوله: (جيش وسيلة ) – نسبة إلى وسيلة بن عمّار زوجة بورقيبة – …… وعندما انتفض العمّال سنة 78 وثار الخبز عام 84 …. إلى أن غضب الياسمين في 14 يناير 2011 وقال لبن علي: (ارحل كي لا يسحقك شوكي).
يومها، كانت دبّابات الجيش ومدرّعاته تجمّل شوارع العاصمة مثل النصب التذكاريّة، تلتحم بأشجارها، تحطّ عليها العصافير ويلتقط الأهل لأطفالهم صوراً تذكاريّة فوقها …. لم يشاهد العالم مصفّحات وبزّات عسكريّة تجمّل مدينة إلاّ في تونس ومن بعدها القاهرة على ما أظن.
ضاق خفافيش الظلام –على ما يبدو – ذرعاً بالحمائم وهي تأكل من أكفّ الجنود وتحطّ على خوذاتهم فدبّروا لها المكائد عبر الزواحف التي عماها الحقد فاعتمّت به في حادثة الشعانبي ومن قبلها في بلدتي (الروحيّة) و(بئر علي بن خليفة) … ومازلنا نتوقّع المزيد بسبب استعصاء أمر الجيش على (الترويض العقائدي) الذي شهدته وتشهده عاصمتا الأمويين والعباسيين وغريمهما الفارسي.
إنّ من يتجرّأ على الجيش والأمن والمناصب الإدارية ذات السيادة لا يمزح ولا يقبل باللعبة الديمقراطيّة التي من أولى بديهياتها القبول بالثابت في هذه المؤسسات ….. والمتحوّل في البرامج الانتخابية التي هي في عهدة الصندوق الشفّاف.
*كلمة في الزحام :
قد تحزن الأعلام التي تحمي الثورة لا الثروة، قد تجرح وتنكّس لأيام … لكنّ الساعد الذي تنطلق منه التحيّة لا يذوي… وتبقى القبضة مرفوعة.