ما هذا الصدر الأعظم…!
ما هذا الصدر الأعظم…! خرجت هذه العبارة من فم الوالد أمام طفله مثل هفوة في الزحام وهو يمسك بالـ “ريموت كونترول” و يقلّب بإبهامه المتشنّج ليستقرّ فجأة عند أحد المحطّات (الجريئة ) في غفلة من زوجته الناعسة.
استدرك الأب هول زلّة لسانه وإبهامه أمام طفله الذي رفع رأسه مستفسراً: (بابا ما معنى “الصدر الأعظم” ؟) فأدار بسرعة الخائف نحو محطّة (بريئة) تعرض – وبالمصادفة- برنامجاً عن عالم الحيوان ثمّ أجاب بارتجال لا يخلو من الارتباك:
-لا بابا، إنّما قصدت: (ما هذا الصقر الأعظم)… أنظر إلى جمال وشموخ هذا الصقر في برنامج عالم الحيوان… ألا يثير الدهشة.
وهنا، انهال الطفل (البريء) على والده المتحذلق بوابل من الأسئلة: ما فصيلة الصقور، أين تعيش، كم تعمّر، ممّا تقتات، كيف تتناسل، كم تنجب من الفراخ، كيف يعلّمونها الصيد …وهلمّ جرّا من الأسئلة التي لا يمكن أن يتصدّى لها إلاّ عتاة المتخصّصين.
أخيراً – وبعد هذا التحقيق المطوّل – رفع الوالد الراية البيضاء مستسلماً وأوقف تيّار الأسئلة الجارفة بقوله: (بابا، أنا كنت أقول: شو هالصدر!.. وليس شو هالصقر… تعال نتفرّج سويّاً إذا أردت .. واعطني رأيك… وقارن بينها وبين أمّك.. هل يعجبك هذا .. هل أعتقتني من أسئلتك ؟! ).
هكذا استجار الأب من “ومضاء” ورطته بنار المصارحة فكفى نفسه مشقّة المواجهة ومكر أسئلة طفل لا يظنّها تنتهي .
هذه الطرفة التي يعرفها الكثير منكم بروايات شفهيّة أكثر(جرأة) ممّا يمكن أن تؤول عليه بعد(النشر) الصحفيّ، تلخّص مقولة أزليّة مفادها أنّ حبال الكذب قصيرة وطرق الالتواء متوّهة بالضرورة .
أمّا الأسئلة التي تختفي وراءها فهي كثيرة وفي عهدة علماء الاجتماع والنفس وأخصّائي التربية: لماذا عبّر الزوج عن إعجابه بهذه اللهفة في غفلة من زوجته وحضور ابنه ولماذا اضطرّ للمواربة والكذب ثمّ التراجع عبر حجّة غير مقنعة … ولماذا لم يأو هذا الطفل (الغليظ) إلى فراشه، وهل أنّ سؤاله كان بريئاً؟.. بل لماذا لم يعجبه من المحطّات غير هذه المحطّة؟
لكنّ السؤال الأهمّ برأيي هو: لماذا تناقل الناس هذه النكتة وتداولوها في عالمنا العربي دون غيره، ذلك أنّنا مازلنا نعتبر الجسد خطيئة والمجاهرة ورطة والكذب تقيّة … والمواربة حبل نجاة، أمّا المصارحة والمكاشفة فحبل مشنقة.
ما زال الكثير من نقّادنا الكواسر يمتعضون من (المباشراتيّة) في الأعمال الإبداعيّة وكأنّها عيب فنيّ يجب إخفاؤه والاستعاذة عليه بالمواربة ومسك الأذن اليسرى باليد اليمنى.
ما أسهل أن تخفي وتتخفّى وما أصعب أن تعرّي وتتعرّى، ما أهون عندنا أن نكتب قصيدة في الحب وما أشقّ وأمرّ وأبعد .. بل وأمتع أن نعيش الحب.
مازالت الكاميرا العربيّة ترتدي النقاب والقفّازات ومازال المسرح العربي يختفي خلف أكثر من ستار وما زال القلم العربي يلبس بدلة “السموكن ” ويكتب عن “المنسف” بالشوكة والسكين .. ويغمس ريشته في حبر ورديّ كاذب…. ومازال المتلقّي العربي يحبّ اللكمات التي تأتيه من قفّاز حريري.
لماذا نسمّي الأشياء بغير مسمّياتها فتصبح الهزيمة نكبة والنكبة نكسة والنكسة هفوة … والصراع الطبقي عتاباً طبقياً..لا محوريّاً !
لم تصبح المجتمعات المتقدّمة على ما هي عليه الآن ولم تتلوّن أكشاك جرائدها إلاّ بعد أن نزعت عنها عباءة التردّد والمواربة وكلّ الاستعارات اللفظيّة … واختارت المباشرة البليغة وعدم استبدال كلمة(صدر) بـ(صقر).
حين تصبح المباشرة خياراً فنيّاً وحياتيّاً، هذا يعني أنّك قد نزعت عنك ثوب الخوف والتوجّس وجعلت من منشر غسيلك المتعدّد الصفوف حبلاً واحداً تنشر فوقه كلّ الملابس الداخليّة والخارجيّة، الناصعة والمتّسخة … وفوق ذلك كلّه تعلّم جيرانك المصارحة فيبادلونك بمثلها.
كلمة في الزحام:
وردت في إحدى مسرحياتي لفظة نابية وفق منطق الشخصية في سياق الحدث .. فشتمني أحد الجمهور محتجّاً في صالة العرض بعبارة أكثر “سوقيّة ” لأنّه كان يختفي في الظلام …. ومع ذلك ابتسمت عن طيب خاطر لأنّ الكتابة دون قرّاء مثل دعاء القانط من رحمة ربّه.
بوابة الشرق الاوسط الجديدة