من تونس إلى مصر …وبالعكس ..
من تونس إلى مصر …وبالعكس …. يطلّ وزير الداخلية التونسي على الشاشات بوجه خال من التعابير وصوت رسميّ يشبه بدلته ويقول في تفاصيل لوجيستيّة مملّة أمام حشود المصوّرين والصحفيين المتثائبين : (أثبتت التحقيقات الأوليّة في قضية مقتل النائب محمد البراهمي أمام منزله ظهر يوم أمس إقدام شابين ينتميان إلى أحد التيارات السلفيّة المتشدّدة على إطلاق أربعة عشر رصاصة (وليس أحد عشر كما تردّد على ألسنة البعض ) من عيار 9 أفرغاها في جثّة الهالك ثم لاذا بالفرار على متن درّاجة ناريّة سوداء من نوع (فيسبا )، أحدهما يضع طاقية حمراء …والجدير ذكره أنّ قطعة السلاح المستعملة في الحادثة من نفس النوع، لا بل هي نفسها التي نفّذت بها عمليّة مقتل المرحوم شكري بلعيد منذ ستة أشهر …وهي مهرّبة من الشقيقة ليبيا).
ينهي الوزير كلمته ويغادر ليترك المنبر لأحد المسؤولين في الشرطة الفنيّة مهمّة الشرح والمتابعة عبر شاشة إسقاط وكأنّه أستاذ فيزياء أو رياضيات أمام طلاّب شعبة الآداب.
الغريب أنّ عمليّتي الاغتيال السياسي اللتان استهدفتا محمد البراهمي ومن قبله شكري بلعيد تتّصفان ببرودة الدم والأريحيّة من حيث التخطيط والتنفيذ , فقد تمّت كلاهما أمام منزل الضحيّة وفي وضح النهار … بواسطة نفس قطعة السلاح وعلى ظهر درّاجة ناريّة وعلى يد نفس المجموعة التكفيريّة وربما – بل على الأغلب – نفس المنفّذين الاسلاميين ضدّ نفس العنوان السياسي ورموزه المتّهمين بالكفر والإلحاد و(الحنين) إلى الغرب الأوروبي ….ولكن….أينهم ؟!…
يعقّب وزير الداخلية وبكل بساطة أنّ المتورّط صاحب سوابق في بيع وتهريب السلاح القادم من حدودنا الجنوبية … طيّب لماذا أطلقتم سراحه من قبل ولماذا لم تعلنوا عن اسمه إلاّ الآن وبعد (أن حصّل ما في الصدور) …!؟
أمّا عن التداعيات السياسية لحادثة الاغتيال فلم تختلف عن سابقتها في مقتل شكري بلعيد : استنكار وحداد وتمسّك ب(الشرعيّة) في مواجهة (أعداء الثورة) في الداخل والخارج من طرف الترويكا الحاكمة، إضراب وغضب واحتجاج ودعوة لرحيل زمرة النهضة وحلفائها من جهة المعارضة …. ثمّ يجفّ حبر الجرائد قبل الدماء وتستمرّ التجاذبات تحت القبّة البرلمانيّة والبلاتوهات التلفزيّة كفلكلور باهت الألوان في ديمقراطية أصابها الهرم قبل نضوجها و استوائها ………… ولكن……
ثمّة طرف ثالث يكاد يمحى من خارطة البلاد .. ألا وهي البلاد…! أناس تلفح جلودهم وقلوبهم الشمس العارية وقد استفردت بهم وانتقمت منهم بعد أن كانوا يبيعونها بملّيمات قليلة للأجانب في مواسم ازدهار السياحة والاستبداد، تدمي ظهورهم سياط الغلاء في المعيشة والمغالاة في السياسة، هم أحصنة خاسرة في رهانات الأمس ومزايدات اليوم، أناس طيّبون إلى حدّ تصديق أيّ شيء … ومنتقمون إلى حدّ تكذيب كلّ شيء … إنهم غلاة في المسايرة والمناورة وغلاة في التمرّد وشقّ عصا الطاعة….
لو حسب حسابهم الأسلاف من المخلوعين والهاربين والمسجونين والمقتولين والمعدومين والذين ينتظرون، لما آلت إلى هؤلاء المستجدّين الطواويس من الذين أخذتهم العزّة بثورات الجياع والمحرومين، خالوا أنفسهم ناطقين باسم الثورات ولم يحذروا عقارب الساعة التي بدأت بلدغ حكّام مصر: توأم تونس التاريخي من جهة الغرب في الفكر والسياسة والإبداع … وغريمها حتى في الرياضة والريادة شمال القارة السمراء، كما هي الحال مع بلاد الشام من ناحية شرق المتوسّط.
كيف تنأى تونس بنفسها عن هذه العدوى التصحيحيّة الحميدة وهي التي أعطت إشارة الانطلاق إلى أرض الكنانة وبلّغت عن قدوم الربيع في14 يناير مثل رفرفة اليمام وأعراس النحل في السماء .
كيف يتمرّد المصريون المعروفون بتديّنهم الواضح ويضيقون ذرعاً بمن خدعوهم باسم الدين ولا يفعلها التونسيون (المتّهمون بالانفتاح الزائد على اللّزوم) وقد جاء اغتيال محمد البراهمي مفتاحاً مسجّى على طبق وإيذانا بتحرّك اليوم قبل الغد، خصوصاً وأنّ المجتمع الفيسبوكي صار (حارة ضيّقة) … والناس تعرف بعضها دون حاجة إلى (عكيد) أو (عضوات) من حارتي (أبو النار) و(أبو شهاب) .
*كلمة في الزحام:
سيدي وزير الداخلية، أغلب الظنّ أنّ الشعب التونسي سوف يترك لك مهمّة التكفّل بملاحقة صاحب درّاجة (الفيسبا) السوداء والطاقية الحمراء والبحث عن قطعة السلاح التي انطلقت منها الـ 11 أو الـ 14 رصاصة من عيار 9 أو 99… كما سيترك طاولة الحوار للحكومة والمعارضة … تنامون فتصبحون على وطن يليق بمن أحبوه دون يافطات.