كتاب الموقعكلمة في الزحام

يا زلّة في لساني…

يا زلّة في لساني… تنويه فنّي لا بد منه: عزيزي المدقّق اللغوي، لا تظننّ أنّ الجملة التالية في هذه السطور خطئاً طباعيّاً أو تنضيديّاً، فتسارع إلى “تصحيحه” مشكوراً – وما أكثر ما عانينا نحن العرب من ظلم اللغة رغم أنّنا أفضل من يروّضها ويمتلك ناصيتها – عزيزي، تابع المعنى وتخلّ قليلاً عن آليّة عملك الذي نكنّ له كلّ الإجلال والتقدير لأنّ الأمر يتعلّق بزلّة لسان وليس زلّة قلم:
” أيتها السيدات والسادة إنّنا نرحّب جميعاً بهذا ” الحمار الوطني ” البنّاء وندعو كلّ الأطراف والفرقاء إلى الانضمام إليه “:
بهذه العبارة أو ما يشبهها بدأت إحدى الشخصيات الحقوقيّة والمدنيّة الفاعلة والمحترمة في تونس كلمتها أثناء انعقاد جلسة ما يعرف بـ
الحوار الوطني ” الذي يضمّ حكومة الترويكا وجبهة الإنقاذ بكل أطيافها.
ضحك الجميع طبعاً، حتى بانت أسنانهم اللبنيّة حيناً وكشف بعضهم عن أنياب ومخالب مصفرّة ومنخورة … وبعضهم عن أطقم أسنان
و” جسور سنّية ” مستوردة وظهرت أضراس” العقل” لدى قلّة … ولم تظهر لدى قسم كبير منهم …. أمّا قهقهات الصحافة ورجال الإعلام فكانت مجلجلةً وأكثر وضوحاً وصراحةً بعد أن كسبوا جولتهم الأولى في معركة مازالت طويلة وشاقة.
ابتسم الضيوف الأجانب أمام هذه الزلّة ” الحدث ” وارتبك المترجمون الفوريون أمام ميكروفوناتهم…. وأخذها جميع التونسيين على محمل الجدّ أمام تلفزيوناتهم وكؤوسهم وطاولاتهم وعلى مقاعد سياراتهم وظهور دوابهم في أقصى الأرياف …. وفي مواجهة مستقبل أبنائهم الملبّد بغيوم الفتنة والانقسام .

حاول المتحدّث وهو يغالب ضحكته أمام جمهور المعلّقين والمشاكسين أن يبرّر زلّته بشيئ من الظرف في قوله : “نعم، إنّ حوارنا يجب أن يشبه الحمار في قدرته على تحمّلنا وإيصالنا إلى برّ الأمان مثل مطيّة لا بدّ منها ” …. لكنّ عبارته: “حمار وطني”، قد تكرّرت ثانية بوضوح وكأنها عن سابق اصرار وترصّد … وهذا ما زاد في طرافة الموقف وأفقد الحاضرين القدرة على التركيز في كلمته رغم ما يعرف عن الرجل من النزاهة ونظافة اليد.
انتهت الكلمات الافتتاحيّة ذات الطابع البروتوكولي، وغادر الضيوف والإعلاميون وانطفأت أضواء كاميرات التصوير … وبدأت جلسات

“الحمار الوطني” المغلقة والمفتوحة على كل الاحتمالات ….
“الحمار الوطني” : الذي كرّمه توفيق الحكيم في كتاباته وجعله مستشاراً وصديقاً في وقت الضيق …. وهو الذي اتخذها الديمقراطيون في أمريكا رمزاً قوميّاً في مواجهة ثقل الفيل الجمهوري، هو الذي اقترن بثورة صاحب الحمار الشهيرة في تاريخ عربي أعرج، … وهو كذلك الصوت المذموم في الآية الكريمة على لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه : ” إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمار”.
ومهما يكن من أمر فإنّ هذا الكائن الذي لا ينبغي أن يغيب عنّا صبره وتضحيته ووداعته وتقبّله شتى أنواع الإهانات بصمت مدهش، هو أيضاً جاهز للرفس والركل حين تضيق به السبل.
….. والأكثر من ذلك كلّه… استعانة الهندسة المدنيّة عبر التاريخ بقدرته على شقّ الطرقات الوعرة بموهبة خارقة … نحن نعوّل عليك أيها ” الحمار الوطني ” في بلادنا ونمشي خلفك … مع حذرنا الشديد من “رفساتك” المفاجئة .
لننتبه إلى”ذوات الزلاّت ” من الألسنة الصريحة وليس إلى تلك التي ضحكت علينا بفصاحتها و”بيانها ” الكاذب….

كلمة في الزحام :

هل حقّاً أنّ اللسان هو آخر ما يستخدمه المتحدّث اللبيب … وأوّل ما يستعمل لدى المجتمعات المتخلّفة في اللعق والنميمة؟!

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى