يكره العنصريّة والزنوج..
يكره العنصريّة والزنوج….رميت بحبّة حمص مسلوقة وسوداء عندما كنت أطعم طفلي من كيس صغير كنّا قد اشتريناه لتوّنا من بائع متجوّل وأشقر اللون في حديقة عامة..
نظر إليّ الصغير بعين لا تخلو من الغضب والعتاب، وكأنه يحتجّ على هذه الحركة الاعتباطيّة الرعناء، وزاد من إحراجي قول البائع الأشقر: ألا تعلم أنّ حبّة الحمص السوداء أطيب مذاقا من (الشقراوات) يا أستاذ؟
لست أدري لماذا تذكّرت فيلم مارلين مونرو فجأة “بعضهم يحبّذها شقراء” .
جلسنا على مقعد نأكل الحمص المسلوق ونتفرّج على العابرين بسحناتهم المألوفة أمام بعض المربّيات والخادمات القادمات من قارتي آسيا وأفريقيا وهنّ يلاعبن أطفال الآباء الذين يعتقدون بأنهم مرفّهون.
إحداهنّ لاعبت ابني الصغير بحب ومرح كبيرين، حاولت مكافأتها بشيء رمزي، لكنها رفضت وقالت بلغة انكليزية رشيقة: أنا أيضا أتمتّع معه باللعب الذي حرمت منه في صغري “….ثمّ صارحتني بقولها بعد أن استطابت الحديث وشعرت بالأريحيّة والأمان: ” أجد متعة هائلة في اللهو بألعاب الطفل الذي أرعاه عند غياب والديه من المنزل…. بعد عام ينتهي عقد عملي في خدمة هذه الأسرة وأكثر ما يحزّ في نفسي هو أنّي سأفارقه بعد هذا الوقت الذي لازمته فيه أكثر من أبويه … عموماً سأتذكّره دائما لأنّي سأحمل ألعابه القديمة إلى إخوتي الصغار في بلدي..
— هل لديك خطيب أو حبيب أو صديق…أو ما شابه؟
– نعم بالتأكيد، هو يعمل في أحد المنازل القريبة هنا … لا أحد يتحمّل الغربة دون شريك يا أستاذ.
-كيف تتواصلان مع بعضكما …لا شكّ أنّ الأمر صعب.
– نلتقي في نهاية كلّ أسبوع هنا… عند المراجيح، نسرق بعض الوقت ….. وأحياناً ليلاً، عندما نفرغ القمامة في الحاوية التي تفصل بين (فيلّاتينا) … أقصد مكان عملنا.
وهنا قطع ابني حديثنا، وفاجأ الصبيّة بهديّة غريبة :…. لقد جمع كل حبيبات الحمص السوداء وأهداها للخادمة اللطيفة.
شكرته بحب كبير وقالت له ضاحكة وملاعبة: أنا أيضاً أحب الأبيض من الفواكه والشراب واللباس، وإن تخلّى عنّي حبيبي الأسمر يوماً فسأتزوّج من بائع الحمص الأشقر هذا، لعلّنا ننجب طفلاً يرضي جميع الأذواق ويأكل الحمص دون تفرقة بين حبة شقراء وأخر ىسوداء.
غادرتنا الفتاة اللطيفة السمراء لتلتحق بمن تشرف على خدمتهم وسألت نفسي: إن كانت العنصرية تبدأ في طرف أفكارنا وزوايانا المظلمة فعلاً، كما كتب أحد منظّريها “البيض” من فلاسفة أوروبا ؟
هل تنتقل العنصريّة وتورّث عبر الجينات أم أنّنا تعلّمناها في البيئة الأولى المسمّاة بالعائلة وتدحرجت ككرة ثلج نحو المدرسة والمجتمع لتمسي سلوكاً يوميّاً وطبيعة ثانية نتنفّسها كالهواء.
توقّفت عند مشاهد لـ(اسطبلات) شاهدتها، تقطر منها السلاسل، تعشّش فيها القيود وتخطّ فوقها آثار الدماء المتخثّرة والموشومة على الحائط عند غرب افريقيا …. القارة التي تشبه جغرافيتها القلب .
شاءت السلطات فيما بعد، أن تجعلها متحفاً لضعاف الذاكرة وشاهد عار لأحفاد بيض يخجلون من همجيّة أجدادهم فيتّعظون… وآخرين سود يتذكّرون ويذكّرون ثمّ يصفحون وينسون …. كذلك يكون التسامح الذي لا بدّ منه كقارب وحيد يأخذنا إلى ضفّة السلام.
هل طوينا الصفحة فعلاً، هل كشفنا كلّ الظلال المختبئة في زاوية الذاكرة … هل اجترحنا حلاًّ حقيقيّاً يؤاخي بين كلّ الألوان مثل زهرة اللوتس..
تذكّرت الشاعر السوداني محمّد الفيتوري صاحب “أحزان افريقيا” في مخاطبته لرجل أبيض لا يشترك معه إلاّ بلون الكفن:
“ألأنّ وجهي أسود ولأنّ وجهك أبيض، سمّيتني عبدا، فأكلت بفلي ناقما وشربت كرمي ظالما….إني صحوت من أمسي وذي فأسي تهدّ القبور رمسا برمس …. أمدد يديك إلى يدي نشيّد صرح المحبّة شيدا”
لم تتوقّف العنصريّة على لون بعينه، بل أفرزت “أحقاداً لونيّة” كردّات فعل لامتناهية، حتى أنّي قلت يوماً لصديق فنّان أسود اللون و “ملتزم سياسيّاً” يؤدّي بفخر واعتزاز أغنية تقول كلماتها: (أنا أسمر)…!
اقترحت عليه بأن يحذف هذه الأغنية من ألبومه فوراً لأنها عنصريّة مضادّة، فهل سمعت يوماً أحدهم يتغنى بقوله (أنا أبيض)؟!…. وقد نغفر لسميرة توفيق التي غنّت يوما: “أشقر وشعره ذهب”…عفواً، لماذا كلمة “نغفر” …هي حرّة فيمن تحب..
أظنّ أننّا بدأنا بإزالة العنصريّة تدريجيّاً في عالمنا المعاصر، وغفرنا للمتنبّي قوله في لحظة غضب: “لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه,إنّ العبيد لأنجاس مناكيد”
إن كان هذا حبّاً وإجلالاً , للملك النجاشي وعنترة وبلال الحبشي وزرياب ومارتن لوثر وحتى “أوبرا” الإعلامية الأمريكيّة التي علّمتنا بأنّ النجاح يمكن أن يكون أسود أيضاً.. إن كان لأجل هذا فنحن عنصريون حتى في معاداتنا للعنصرية…..
أمّا أهمّ أيقونة سمراء في مذبح الحرية فهو (ابراهام ليكولن) الذي أراد لهذا العالم أن يرى إلى ما تحت الجلد والأضلع … ويجمع في (باليت) الرسام الأمريكي كل ألوان الربيع، مهما حاول العنصريون قطع زهوره…..
دفع “لينكولين” حياته بالذهب الأحمر التي قيل أنها رسمت قارة افريقيا عندما سالت على الأرض لحظة اغتياله.
أيها الإنسان الذي اشتقّ اسمه من النسيان: تذكّر أنّك ولدت دون اختيار لونك ودينك وبلدك وجيرانك ولغتك ووالديك وحتى الأعداء والأصدقاء …..
*كلمة في الزحام :
هنّأت صديقاً كرديّاً بقرار تسليمه هويّة مواطن في أرضه فأجاب: أخشى أن يكونوا قد منحونا الهويّة كي يقتلوننا عليها.