لا تشتر الشموع من الباعة العميان
لا تشتر الشموع من الباعة العميان … أعجب لمن يريد أن يبدأ (مسيرته النقديّة) بالتسرّع والتهجّم والتطاول معتقدا أنّ ذلك هو الطريق الأقصر والأنسب نحو الحظوة بمقعد مريح في المشهد الثقافي، يضمن له الهيبة والكلمة المسموعة والدخول المجّاني لعرض مسرحيّ دون أدنى احترام لجهود صنّاعه.
إذا قلنا: إنّ غياب المنابر المتخصّصة تجعل فئران النقد المزيّف تمرح وتعبث على هواها في غياب الرادع المعرفي والأخلاقي يفهم حديثنا على أنّ النقد هو ما يصنع في أنابيب المخابر وليس تلك الملكة الإبداعيّة التي تناظر وتقارب الأثر الإبداعي ولا تلاحقه وقد تعلو عليه ولكنّها ترعاه.
إذا طالبنا الجهات الرسميّة بغلق كل معاهد وأكاديميات الفنون لتحلّ محلّها مدارس لتعليم فن المشاهدة والتلقّي يقفز في ذهننا سؤال جديد ومحيّر: من سيشرف على هذه المدارس ومن سيتولّى التدريس فيها ؟!
ولكي لا نتهم بالسفسطة وبعيداً عن بيضة الناقد ودجاجة المنقود لا نتردّد في القول بأنّ الأعمال الرديئة أفرزت متابعات نقديّة رديئة وكرّست ذائقة رديئة وجعلت من العمل الجيّد والمسؤول عملة مطرودة ورديئة ونشازاً في سمفونيّة النشاز، كما أنّ الخطاب النقدي السائد (وهنا من الخطابيّة والسواد) قد حدّ من خيال المنشغلين بإنتاج الإبداع وخلق منهم موظّفين وسائسين مسوّسين يربطون دابة الفن في المكان الذي تشير إليهم به محاكم التفتيش النقدي.
هل صدق أحدهم حين قال: (لا تشتر الشموع من العميان).. نعم، كيف لك أن تأخذ برأي نقدي من شخص لم يتسنّ له متابعة آخر وأهم ما تحتفي به خشبات العالم، كيف تأخذ بحكم لسان لم يتذوّق غير طعم واحد؟! كيف تقرأ (نقداً) يمسك صاحبه بمسطرة ومنشار ويقتادك إلى سرير بروكوس كأن يفتح أحدهم كتاباً ركيك الترجمة من (بيتربروك) ويحاول أن يصنّفك وفق ما قاله هذا الرجل الذي أصبح موضة قديمة في أوروبا (شخصيّاً، ودون تواضع كاذب، شاركت معه في ورشة عمل بجنيف سنة 1999 وغادرتها بعد أن اختلفت مع أحد مريديه).
هل علينا أن نستشهد ببعض النماذج المضحكة من النقد التطبيقي(من التطبيق) وإليكم هذا المثال الوارد في معرض إحدى الكتابات التي تناولت(استناولت) عرضاً مسرحيّاً: أين الفائدة الدراميّة من وجود شخصيّة لم تتغيّر؟… هل أنّ الدراما أيّها أو أيّتها الناقدة العتيدة هي التغيّر في المصائر وحدها ؟! إنّ الأكثر دراميّة وفجائعيّة في الحياة هي عدم التغيّر والتغيير.
لا نريد أن نطيل أو نفصّل الأمثلة ولا نريد أن نذكر أصحابها حرصاً على رزقهم من هذه المهنة المستباحة كأن يصبح الانطباع الشخصي رأياً نقديّاً يراد له أن يعمّم، مثلاً: (أصبت بالملل نتيجة الإعادة والتطويل والجرعات الزائدة من الكوميديا.. وهذه عيوب تضاف على موهبة “فلان”..). هل علينا التذكير بأنّ الإعادة ليست تكراراً بل خياراً فنّياً له ما يبرّره لدى الشخصيّة وأنّ ناقل الملل على المسرح ليس بمملّ وأنّ التأزيم والتصعيد الدرامي من خلال حدث خارجي أصبح بدائيّاً ومملاًّ وليعد المتفاصحون وعبدة المرجعيات إلى (سترنبرغ) و(بنتر) و(بكيت) أو حتّى لـ(أسخيلوس)، بل فليعودوا إلى واقعهم وذواتهم وخلواتهم ويبتعدوا قليلاً عن الكليشهات المهترئة في فن الإخراج والأداء.
لماذا يدخل بعضهم إلى المسرح مقطّبين وكأنهم جاؤوا ليأخذوا بالخاطر، ينظرون بازدراء إلى من تفاعل و حضر بروحه ووجدانه. ما أجمل البسطاء من العامّة وممّن حافظ على بساطته من النخبة.
التهجّم سهل والمعاداة سهلة والشعارات سهلة ولكنّ البهجة تبقى أجمل هديّة يقدّمها قلب دامع في زمن العبوس والتولّي.
لماذا نجفل من الأعمال التي تشبهنا ونبحث عن مساحات الفصل والأمان الزائف بيننا وبين الحياة ؟!
الذين كرّسوا هذا الفهم الزائف للثقافة وجعلها لا تشبهنا هم جماعة من المرضى وعشّاق الغموض تبحث عن التميّز الأجوف، آن الأوان أن ندينهم من الكتب والأسفار التي يحملونها… اقرؤوا جيّداً ومن جديد: بريخت وغرامشي ولوكاتش وتشومسكي وبارت وفوكو وحتّى( بروك) إن أردتم أن ترفعوا هذه الأسماء على أسنّة الرماح في مواجهة الأعمال التي لم تخلع محبّيها وانتمت إلى الناس وراهنت على الناس.. الناس الذين يلزمكم الكثير من الكتب لتصلوا إلى حبّهم وبساطتهم وضحكهم وحزنهم في مسرح ينتمي إليهم.
فؤوس النقد الحاقد لا تحترم الأشجار ولا تحاورها لأنّ أصحابها الذين يتعيّشون من الحطب لم يعرفوا الغراسة ولا السّقاية ولم يرفعوا رؤوسهم لمشاهدة الثمار….. ولم ينتبهوا للظلال التي يجلسون تحتها ومع ذلك فإنّ شجرة الصندل تعطّر حتّى الفأس التي جاءت لتقطعها كما قال الشاعر الافريقي.. وصديقي في (زوايا) عادل محمود.