لقاح ضد الموت
لقاح ضد الموت .. صوت واحد كان قد حسم الأمر في الاستفتاء الشهير وجعل الأمريكيين يعتمدون الانكليزية دون غيرها لغة رسمية لبلادهم …لا بل للعالم بأسره .
صوت واحد رجّح اختيار النظام الجمهوري عن النظام الملكي بعد الثورة الفرنسية …
صوت واحد هو الفارق الذي حسم الكفّة لصالح الحزب النازي في ألمانيا، تسبّب في صعود هتلر وكان ما كان …من حروب وكوارث ومجازر وخرائط وأفكار .
…وبالمقابل، ثمّة شخص واحد في مكان ما، كان قد “تقاعس “عن أداء واجبه الانتخابي صبيحة يوم يظنه اعتيادياً بسبب نزلة برد أو بلادة أو موعد غرامي أو زحمة سير أو كسل ما …أو مزاج معكّر و إحساس يائس بأنه صفر على شمال رقم لا يعنيه.
هل يحيلنا كل ما تقدّم إلى جدوى الاقتراع وأهمية الانتخاب أم إلى عبثيتها ؟ كيف لصوت واحد أن يحسم أمر مجموعة ويقرّر مصيرها ؟ ولكن …هل تتكوّن الجماعات وتساس الدول بغير الأفراد..
قد تغيب عن المتأمّل في الديمقراطيات العريقة بعض الأمور التي جعلت لتسعف الذئب وتحفظ الأغنام فتساير الأكثريّة وتراعي الأقليّة عبر اجتهادات توافقية وتشاركيّة أو غيرها، كتبادل الأدوار بين الحكومة والمعارضة .
قد يشطّ بعضنا رفضاً أو مغالاة، بين عبدة الصناديق الاقتراعية من المؤمنين بأنّ المجموعة دائماً على حق مستشهدين بقول نبي الإسلام ” ما اجتمعت أمتي على باطل ” وبين الكافرين ببدعة الديمقراطية التي يرون فيها دكتاتورية العامة والدهماء التي تقرّر تعسّفاً مصير الأفراد وتقمع رغباتهم الجامحة في التميّز والإبداع .
ظلّت الديمقراطية كلمة منقوصة تطلب فلا تدرك، منذ آبائها من الفلاسفة المؤسسين في اليونان القديمة الذين استبعدوا الفئات الدنيا من الحكم أو حتى مجرّد المشاركة في الاختيار، وكذلك فعل واضعوا الشرائع من البابليين والسومريين والفراعنة الذين قاسوا على مقاسهم فكان من الطبيعي أن لا تكون القسمة عادلة .
جاءت عصور التنوير وحسمت الأمر لصالح الفئات الصاعدة من البرجوازية المتسلّحة بالعلم والمعرفة والراغبة في التنصّل من سلطة الكنيسة والإقطاع، صحّحت مسارها الثورات الصناعية وبقيت تعرج في مشيتها وتشكو من خلل ما .
حاولت الثورات العمالية وحركات التحرر تسخيرها لصالح الفئات الكادحة والمغلوبة، لكنها سرعان ما وقعت في الأسوأ …… أي هروب إلى تحت المزراب .
هل الديمقراطية ذات ممسك زئبقي على الدوام أم أنّ المشكلة في الأصابع التي تحاول القبض عليها والتربة التي ستغرسها فيها ؟
لعلّ هذا ما دفع بالجماعات المتطرفة ذات التفكير الغيبي والميتافيزيقي تكتسب نوعاً من ” الشرعية المزيفة ” وسط مجتمعات ينخرها الفقر والجهل فتعلن “الجهاد” في سبيل “مملكة الشرائع السماوية ” التي لم توجد أصلا في التاريخ .
التكفيريون يعتبرون الديمقراطيّة “بدعة ” وكل صاحب بدعة في النار، والطغاة يعتبرونها “مؤامرة ” واعتناقها بمثابة الخيانة العظمى، والجبناء يرونها ” إشاعة مغرضة ” تسبّب الفتنة وتهدّد العيش المشترك، والمجتمعات الذكورية تسعى لوأدها باعتبارها ميوعة وعاراً وتخنّثاً .
خلاصة القول أنّ من تربّى على ثقافة الطاعة والخوف يعتبر الاختيار ضرباً من التهوّر ومغامرة لا تحسب عواقبها …فطوبى للذين يختارون حتى طريقة موتهم.
كلمة في الزحام:
أن تندم على ما فعلت، أفضل بكثير من أن تندم عمّا لم تفعله … والاقتراع الحر عادة تؤدّي إلى إدمان الديمقراطية …..إنها لقاحنا الأبدي ضد كل أنواع الأمراض ….لا بل ضد “الموت”.