كتاب الموقعكلمة في الزحام

للنقاب مناقب أخرى…

للنقاب مناقب أخرى… يتذكّر التونسيون جيّدا اللقطة الأشهر بعيد الاستقلال – وبالأبيض والأسود – للزعيم بورقيبة وهو ينزع غطاء الرأس على إحدى السيدات مبتسما تحت هالة من الابتهاج والتصفيق من مؤيديه ,وغيظ وتجهّم وجوه معارضيه من الحانقين والمحافظين ,معلنا بذلك ولادة تونس جديدة .
اليوم ,- وبعد تلك الولادة القيصريّة – أصبح الحجاب والنقاب مشهدا شبه مألوف في الشارع التونسي الذي عرف ب(سفوره) الواضح لعقود طويلة من حكم محرّر المرأة ومن بعده زين العابدين بن علي ,مدبّر الانقلاب الأبيض عام1987 .
لست أدري إن كان النقاب قد نجح في التسلّل إلى جحافل التونسيات في المعاهد والجامعات والوظائف بعد ربيع كان الأجدر به التفتّح والانفتاح ,لا التزمّت والانغلاق ,أم أنّ الحجاب كان موجودا تحت الجلد وظلّ يلبس طاقية الإخفاء في سنوات الجمر ,حتى (ظهر الحقّ وزهق الباطل).
المعروف عن هذا البلد المغاربي الإشكالي – ذي الموارد الطبيعية المحدودة – أنّه لعب عبر التاريخ دورا أكبر من حجمه فكان سبّاقا إلى سنّ قوانين مدنيّة نافس فيها أعتى الديمقراطيات الغربية على صعيد تحرّر المرأة والمجتمع بتخصيص الجزء الأكبر من ميزانية الدولة للتعليم والثقافة.
ربما يعود الفضل إلى الزعيم بورقيبة , مؤسس الجمهورية الأولى المعروف بمغالاته في النسج على المنوال الغربي بحكم دراسته في باريس (بلد المستعمر) وارتباط اسمه بالحركة الوطنية التي شهدت مدّا وجزرا ,ثمّ انحيازا واضحا للحل السياسي والمدني السلمي على حساب الحل العسكري المسلّح الذي تشبّثت به الجزائر ,الجارة والشقيقة الكبرى.
ربما يتعلّق الأمر بطبيعة وتركيبة هذا البلد البشرية والجغرافية والتاريخية ,فهو يكاد يكون القطر العربي الوحيد في التجانس الديني والعرقي والمذهبي:(أغلبية عربيّة مسلمة سنيّة مالكيّة ساحقة ),إلى جانب بعض الأقليات الأمازيغية والزنجية واليهودية والإباضيّة والحنفيّة والبهائيّة …وقليل من المتنصّرين والمتشيّعين …وقد تصاهر وانصهر فيه الجميع.
لعلّنا (حرمنا) من ذاك الموزاييك الثقافي الموجود في بلاد الشام والعراق ,والذي يغني الذائقة بالتنوّع المحمود ,لكنّه ذو فضل في النأي بالتونسيين عن الصراعات المذهبية والاحتقانات الطائفية التي قد تعصف بالبلاد وتجعل قطار ربيعها اليوم على شفا هاوية من الانحراف وسط تجاذبات سياسية حادّة.
تأتي المرأة – أو نصف المجتمع الذي يربّي نصفه الآخر- مقياسا حقيقيّا لنجاح الثورة أو إخفاقها في تونس ,على اعتبار أنّ حقوقها مكسبا تاريخيا ووطنيا يفتخر به التونسيون والعرب ,بل المسلمون جميعا .
هل عادت حفيدة تلك السيدة التي نزع عنها بورقيبة الغطاء من فوق رأسها كي ترتديه من جديد فتنتقم لجدّتها وترضي معارضيه من المتشدّدين ؟ ,هل ضاعت صرخته في الفراغ…هل كان يبذر ويحرث في أرض عاقر ؟,هل خذله شعبه الذي راهن عليه أعزلا وفقيرا إلاّ من سلاح الثقافة والتعليم….أم أنّ الزعيم الدونكيشوتي كان يحارب طواحين الهوا ويطلب غير المستطاع….!؟.
هل نزع بورقيبة فعلا الغطاء من فوق رأس تلك السيدة ,أم شبّه وخيّل له ذلك …وغفل عن نقاب سميك صنعته قرون طويلة من التربية المتشدّدة والاعتقاد بعورة المرأة في الصوت والصورة والمعرفة والتساوي مع من أنجبته أو تزوجته أو ربّته.
النقاب والحجاب الذي غاب عن الشارع التونسي ومؤسسات الدولة لعقود طويلة بفعل التعليمات والقوانين الجائرة في حظره وتحت ذريعة محاربة التطرف والإرهاب ,عاد اليوم يطلّ برأسه مع القفازات واللحى الطويلة وأصوات التكبير التي قمعت في الماضي خوفا وتخوّفا …وإيهاما من السلطة لرعيتها أنها تحمي المشروع المدني …في الوقت الذي كانت تحضّر فيه –ومن حيث لا تدري – لحبل المشنقة الذي سوف يلتفّ على رقبتها.
لكنّ لظهور النقاب في الشارع التونسي أسبابا أخرى غير التديّن والقناعات الشخصيّة ,.إنه شكل من أشكال الانتقام والتشفّي و(موضة) يمارسها بعض التونسيين في ربيع حرياتهم تأثّرا بما يشاهدونه على القنوات المتاجرة باسم الدين بعد أن كانوا في عصر ما قبل الساتلايت يكتفون بمشاهدة (التلفزيون الوطني) وقناتي إيطاليا وفرنسا لقربها الجغرافي وقوة بثّها وتأثيرها في الأوساط الشبابية المستلبة.
أمّا السبب الأرجح والأكثر إقناعا في اعتقادي لظهور النقاب فهو ماديّ اقتصاديّ بحت ,ذلك أنّ غالبية النساء الفقيرات والعاجزات عن ارتياد صالونات التزيين ومتاجر الموضة يحبّذن ارتداء ما أخفى من الثياب وأسهل على الجيوب وأقدر على ستر العيوب وأمكر في تزويج العوانس ومتواضعات الجمال.
إنّ الأمر إذن يتعلّق بما يعرف ب(اليونيفورميزم) ,أي تعميم اللباس الموحّد كما هو الحال في المعامل والمشافي ورياض الأطفال ,كذلك يفعل بعض الملتحين حين يريدون إخفاء علامة أو ضربة سكين في الوجه …لكنهم غفلوا عن مسألة لم يتفطّنوا إليها ,وهو أنّ الأقمشة التي يصنع منها النقاب والحجاب متفاوتة الجودة والأسعار والذائقة والألوان ….وأنّ مهنة المكيّس في حمّام السوق العمومي تمكّن صاحبها من معرفة معادن الرجال ووظائفهم ومستوياتهم الاجتماعية من مجرّد تمييز نعومة الجلد من خشونته.

*كلمة في الزحام :

هل يزدهر الشعر العذري بعودة النقاب كما ازدهرت تجارة بيعه اليوم في تونس ….وهل فعلا ما خفي هو أعظم…؟.

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى