كتاب الموقعكلمة في الزحام

متاهة الأبواب وأسئلة المفاتيح‏

متاهة الأبواب وأسئلة المفاتيح‏ قبل اختراع الأبواب كان الإنسان البدائي يحطّ عصاه أو هراوته أو سلاحه الحجري في مدخل الكهف كي يعلن للقادم أنّه في الداخل مع امرأته … وذلك تجنّباً للمواقف المحرجة… وربّما كي لا يكلّف نفسه صناعة- أو نحت- باب ومفتاح وقفل من صخر… كما علّق صديقي ضاحكاً.
قبل حضارة الطين كانت ذوات الرايات يرفعن قطعة من قماش فوق خيامهنّ لجلب الزبائن ضمن أقدم مهنة في التاريخ، وكنّ يسعلن كرسالة صوتيّة للمنتظر في الخارج كي ينبّهنه إلى أنّ رجلاً ما زال في الداخل … من وقتها أطلق لقب الـ(ق…..)- أي التي تسعل – من تسمية”بريئة” إلى الكناية عمّن تطلب التمهّل من القادم رغبة في متعة محرّمة .
قبل اختراع العين السحريّة أوصت العنزة بناتها الثلاث بأن لا يفتحن الباب لطارق إلاّ إذا شاهدن قدميه من تحت الباب… ومع ذلك، جاء الذئب متنكّراً ووقعت الحادثة.
بعد تحصين القلاع بالأبواب العملاقة والسباع المفترسة والأنهار التي تسبح فيها التماسيح والأسطح التي تحرسها سهام الجند والزيوت المقليّة فوق رقاب المقتحمين … ومع ذلك، اقتحمت القلاع واستبيحت أعراضها عن بكرة أبيها..
بعد أجهزة المراقبة الرقميّة والأبواب الإلكترونيّة والحراسات المشدّدة، وقعت اختراقات عديدة… وقدم ضيوف غير مرغوبين إلى أمكنة شديدة التحصين..
ما قيمة الباب عندئذ، إذا كان بعضهم يدخل من الشباك أو السقف أو حتى من مجاري الصرف الصحّي.. كما حدث مع أبطال (باب الحارة)!؟.
ما قيمة المفاتيح التي يعلّقها بعضهم على خاصراتهم ويعتبرونها “شخصيّة جدّاً” ، مثل الأسلحة والموبايلات …!؟. بل ما قيمة الأقفال حين تفتح ذراعيها للغرباء واللصوص. .
مازلت أعتقد بأنّ الأبواب معنويّة و رمزيّة جدّاً وعديمة القيمة الفعليّة – مثل تبويب الكتب والمراجع والفهارس-… هل تحتاج إلى مفتاح عند قراءة باب(الحمامة المطوّقة) أو باب (إخوان الصفاء) في كليلة ودمنة !؟.
لم يجعل الرومان لأقواس نصرهم أبواباً ذات صدر وعجز، بل جعلوها مثل باب جحا في شرقنا الحائر …. لأنّ شهداء المعركة يقفزون من فوقها، ويسبقون المنتصرين قبل قرع الطبول وأكاليل الغار..
…ولكن… لماذا جعلوها عالية إلى هذا الحدّ! ها أنا ذا أنظر إلى صوري تحت بوّابة سور برلين غير المأسوف عليه وأشاهد نفسي قزماً تحته.. هل يسخرون منّي أم من التاريخ والجغرافيا..!؟… الآن عرفت لماذا هذا الهوس بالأبواب الشاهقة لمؤسسات الأنظمة الشمولية..
هل تتّسع بوّابات الشمال للفيلة التي حاصر بها القائد القرطاجي (هنبعل) جبال الألب، هل تناسوا الجمال التي جاءت محمّلة برسالة التوحيد و يقودها رهبان في الليل وفرسان في النهار…. الآن عرفت أيضا سرّ المثل العربي القائل:” إن كنت جمّالاً علّ من باب دارك” ..
سلّم أبو عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة- ضمن أطول ليلة في التاريخ – وخرجنا نعبر مضيق طارق وفي صدورنا الموشّحات والحسرة … ولكن عليها المفاتيح التي غيّروا أقفالها…. فهل يغيّرون من شكلها الذي يشبه إشارة الاستفهام..
خرجنا كما لم نخرج أبداً، خرجنا مثل الفلسطينيين الذين أودعوا سرّهم إلى زيتونة تتذكّر السيد المسيح وتمنح زيتها لمعموديّة الوطن والذاكرة..
خرجنا مثل الذين استفاقوا من حلم عمره ثمانية قرون وبضعة أيام من الشعر والسياسة والكلام..
لونّا الأبواب بالطلاء الأزرق، ووضعنا فوقها اليد الطارقة، زينّاها بالمسامير الفضيّة اتّقاء للعين الحاسدة … ولم ننس أن نعلّق مفتاح بيتنا الأندلسي في صدر الليوان..
لم ننس أن نهتمّ بعتبة غرفة الجدّ ونخفض من علوّ بابها كي لا ينسى الداخل ضرورة الانحناء والاحترام للكبار عند الدخول..
قال جدّي: (الأبواب ترتفع وتعلو للجمّالين وممتطي الدواب، لكنّها تحنو وتنحني للرجال المترجّلين… من البررة و صنّاع الصلح وإلى من جاؤوا كي يلقوا عليك السلام.
الآن عرفت لماذا قالت العرب: لا تدخل البيوت إلاّ من أبوابها…. ذلك أنّ الأبواب الأصيلة تفتح دائماً من طرف أصحابها .. وبالمفاتيح التي صنعت لأجلها… أمّا أكرمها فتبقى نصف مفتوحة.
المفاتيح أسرار ورموز … وكذلك الأبواب التي تختفي خلفها الحكايات، تدخل في أقفالها المفاتيح… ولا يخلعها إلاّ العسس واللصوص بنعالهم… والروائيون بفضولهم..
الأبواب رموز… لذلك دلّ عليها الأقدمون بالهراوات والسيوف والنيران.. وحتى الرايات قبل المفاتيح … لأنّ من يفتح القلب باستطاعته أن يفتح أي شيء وكلّ شيء… ووقتما يشاء……….. أمّا المفاتيح فقد يختصرها ” الماستر كاي ” في الفنادق … والذي هو الكلمة الطيبة في القلوب..

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى