متعة الكذب
متعة الكذب ..” لا تقلق من وضع طفلك الكذوب.. ربما يبشّر بفنان واعد”.. هذا ما يقوله لك خبير نفساني وتربوي، إن سألته أوشكوت إليه من أن ابنك كثير الكذب والخداع.
لا أدري.. يخيّل إلي بأن المناهج التربوية الحديثة تشجع على الكذب، وتعتبره “إبداعا مسكوتا عنه”.
عدت بالذاكرة إلى الوراء كثيرا، وبحثت فيها عن علامات كذب مبكّر، لعلني أصنف نفسي من ذوي الأقلام الواعدة، فلم أظفر إلا بحادثة واحدة حدثت معي في الصف الثاني الابتدائي:
كان “سي مصباح” يدرسنا مادة اللغة الفرنسية. وكان معجبا ببلدتنا البائسة الفقيرة التي أتقن الفرنسيون بناءها ثم تركوها للحرمان غداة الاستقلال.
لم يهنأ “سي مصباح” ببلدتنا كثيرا، إذ جاءه قرار نقله إلى بلدة أخرى. اختارني كي أكون مرافقه إلى محطة القطار وهو يودع مدرستنا بعينين دامعتين. أثناء الطريق طفق يسألني عن كل شاردة وواردة، فقلت لنفسي: لا بأس من بعض الخيال، طالما أنه لن يعود ثانية إلى بلدتنا. بدأت أحدثه أولا. عن ظروف مولدي، إذ وجدني والداي الافتراضيان عند باب كنيسة الطليان، تبنياني ثم ربياني في خضم حياة قاسية لم أنعم فيها بالهناء ولو للحظة واحدة، إذ كنت أنام في العراء، آكل الحثالة وأشرب الثمالة. ويشبعانني والدي بالتبني، ضربا متى تأخرت في واجب العمل، وتحت ظروف قاسية.. هذا بالإضافة إلى ما أناله كل مساء من ضرب وتعنيف.
لم أترك كل شاردة أو واردة مما شاهدت أو سمعت أو قرأت أو تخيلت من الدراما إلا وحكيتها ل “سي مصباح”، وزدت على ذلك أني جعلت يدي اليسرى معوحّة، مدعيا أني مصاب بإعاقة جسدية. مما جعل الدموع تلتمع في عينيه ثم ضمني إلى صدره حين اقتربنا من محطة القطار، ودعني بحسرة بعد أن اشترى لي سندويشا، ومنحني بعض النقود.. وعدت إلى البيت مسرورا بهذا الإنجاز التمثيلي، وغير خائف أو مكسوف الضمير، طالما أنه لن يعود إلى البلدة ثانية.
لكن “سي مصباح” عاد بعد شهر، وبعد أن استجابت الجهات المسؤولة إلى طلبه في العودة إلى بلدتنا. دخل إلى قسمنا لاستئناف عمله في التدريس. ارتبكت كثيرا ونسيت إن كانت إعاقتي الافتراضية في اليد اليمنى أم اليسرى.
عاد أبي إلى البيت في ذاك المساء وبدأ يطنب في إخبار أمي كيف أنه التقى بمدرسي في المقهى. وكيف أن الأخير بدأ بلومه عن سوء المعاملة التي أتلقاها، والحقيقة أني الصبي الوحيد المدلل في العائلة. أغمضت عيني” وافتعلت النوم خوفا من العتاب والمواجهة.
أحسست بعدها بشعر ذقن أبي وهو يقبلني برقة دون أن يقول لي بعدها شيئا.
قابلت اليوم “سي مصباح” وهو عجوز يتوكأ على عصاه، سألني عن أحوالي، وارتبكت مجددا.. هل أصافحه باليمنى أم باليسرى؟.