مد الوجوه مثل مد الأيدي..
مد الوجوه مثل مد الأيدي.. عمل معي في دمشق ممثل كان يتباهى بأنّه لم يفتح في حياته جريدة إلاّ لحلّ الكلمات المتقاطعة …! ولم يمسك بين يديه كتاباً إلاّ إذا كان مقرّراً لتقديم الامتحان في المعهد الذي تخرّج فيه وعاد إليه معيداً في انتظار فرصة يجود بها مخرج تلفزيوني.
التقيته يوما في أحد الفنادق بعد حالة الازدهار التلفزيوني والكساد المسرحي فوجدته يختفي وراء نظّارات سوداء، يبتسم للمعجبين والمعجبات من خلف البلّور، يوقّع الأوتوغرافات بين الفينة والأخرى … ويفتح جريدة للبحث عن صورته فيها.
سألته إن كان مازال يكره القراءة كعادته(الحميدة) فأجاب ممازحاً بسماجة واضحة: لا والله، هلّق كنت عم بقرأ بعض السيناريوهات المعروضة عليّ …و(كتاب استثناء) من أحد المسؤولين قصد(تفييم ) السيارة “، ثمّ سألني -وباسمي الأوّل حافيا، وعلى غير عهدي به -:(هل مازلت مصاباً بلوثة المسرح والكتابة والقراءة يا فلان)؟
فكّرت في الردّ على طريقتي التي يتذكّرها جيّداً في البروفات، لكنّي تريّثت بعد أن طرق جماعة من “السيّاح التونسيين” على كتفي وناولوني آلة تصوير قصد التقاط صورة لهم مع نجمنا العتيد.
انتهى الأمر بسلام ومضيت أسأل نفسي: كيف أصبح هؤلاء الجهلة نجوماً في سمائنا العربيّة، من جعلهم كذلك ؟ كيف أصبح التلفزيون منافساً بل ومتفوّقاً على أرقى الفنون. لماذا يحظ هؤلاء بالامتيازات والاستثناءات لدى أهل المال و السطوة والنفوذ؛ لماذا الهوس بأصحاب الوجوه المعروفة من الممثّلين والمغنّين والمذيعين… حتى أنّي اندهشت لبعض الأقلام المحترمة ورجال الفكر والأدب وهم يحاولون التقرّب من نجوم التلفزيون.
الأنكى من ذلك كلّه أنّ بعض المنابر الإعلاميّة تدفع بالتي هي أحسن وأفضل وأوفر من العملات للمثّل إن كتب بعض السطور على صفحاتها أكثر من الكاتب المحترف… ما عقدة النقص هذه!.. لماذا يعامل الكاتب إن أراد التمثيل معاملة الكومبارس، بينما يعامل النجم التلفزيوني في الاستكتابات الصحفيّة معاملة الحاصل على جائزة نوبل..
لن ألوم الممثّلين الذين يريدون أن يحقّقوا طموح الكاتب في داخلهم (هذا أمر مشروع ومحاولة يحترمون عليها)، لكنّي ألوم الكتّاّب الذين لديهم عقدة الظهور الإعلامي.
أن يعرف الناس اسمك قبل أن يعرفوا وجهك، هذا أمر في صالحك، ذلك أنّه يتيح لك التحدّث والتعرّف والمغازلة والمخاصمة في الطريق دون رقيب، أمّا إذا كنت تضع نظّارات سوداء وتركب سيّارة (فيمي) وتبتسم للفراغ والعدسات وتنتقي كلمات اللطف أمام غلاظ المعجبين فتأكّد أنّك سوف تعيش في جحيم دائم.
من لا يعرف منّا الطرفة أو الحادثة المصريّة المعروفة حين التقت عند الإشارة الحمراء سيارة نجيب محفوظ السلحفاة المبنشرة (قبل نوبل) بسيّارة فيفي عبدو الفخمة، أنزلت فيفي بلّور سيّارتها (الفيمي) وقالت لنجيب:
-بصّ الأدب عمل فيك إزّاي يا نجيب…!.
ردّ صاحب ” بين القصرين” على صاحبة الأرداف: بصّي قلّة الأدب عملتلك فيك إزّاي يا أستاذة فيفي
مضت فيفي متجاوزة الإشارة الحمراء ولم تخالفها شرطة المرور طبعا..
ربّما حصلت فيفي بأردافها ما لم يحصل عليه نجيب محفوظ هو وقلمه، حتّى بعد نوبل … وهذا من حقّها، اللهمّ لا حسد ولا شماتة، لكنّ المعضلة في المعجبين والمقبلين والمتفرّجين وطالبي الصور و الأوتوغرافات …. لن نقول (حلال ع الشاطر) كما تقول العامّة والدهماء… بل نقول : حرام على مواهب وأقلام وقامات تنسى في الزحام وتحت الأقدام وفي غفلة من العقول والعيون والآذان قبل العدسات والميكروفونات والألبومات.
شخصيّاً لا أشاهد التلفزيون إلاّ فيما ندر … لذلك أجهل معرفة نجومه، ما عدا المبدعين منهم … وهم الذين يقرؤون ويتابعون، ويعترفون أنّ فنّ التمثيل لا يرتقي إلاّ إذا كان تابعاً ومتابعاً للفنون الأخرى.
*كلمة ع الساكت: نسيت أن أخبركم بأنّي عندما كنت ألتقط صوراً لنجمنا السابق مع السيّاح العرب، قد أخرجته من الكادر –دون علم منه- والتقطت صوراً لأشخاص من خلف زجاج الفندق المكيّف … لأطفال تعساء ومشرّدين وماسحي أحذية… وأناس لوّحت الشمس جلودهم وقلوبهم.