مصادفات غيّرت وجه التاريخ
مصادفات غيّرت وجه التاريخ .. ما كاد العم أبو خليل يلج باب المقهى القديم بحركته الواهنة الثقيلة ويهمّ برفع يده لتحيّة الحاضرين من أبناء جيله الذين اعتاد على مقاسمتهم الكلام والصمت والقهوة كلّ صباح ,حتى وقعت اللّوحة الثقيلة المثبّتة أعلى الباب على رأسه وصار في ذمّة الله بعد لنزيف لم يتحمّله رأسه الأشيب الطريّ العجوز.
علّق أحد أصدقائه القدامى:(مسكين أبو خليل…منذ دقائق كان على قيد الحياة)
ردّ عليه جليسه بنزق :(اتّق الله يا رجل ,هل تعتقد أنّ الموت يبعث الشعور بالشفقة قبل الرحمة…ثمّ من قال لك إنّك على قيد الحياة أيها المؤجّل دفنه…إنّك على قيد الانتظار).
قال آخر:(تخيّلوا لو أنّ أبا خليل قد تأخّر دقيقة واحدة ملقيا تحيّة الصباح على جاره أو متناولا الفطور مع أسرته …أما كانت هذه اللّوحة اللعينة ستقع قبيل مجيئه ,فينجو من الحادثة بمجرّد تأخير بسيط !؟
-ويموت (تحسين) نادل المقهى وهو في عزّ شبابه حين خرج قبله يلبّي طلبات الزبائن في الخارج .
-لو جاء إلى المقهى باكرا ,دون أن يشتري الخضار لأسرته مثل عادته ,و دون أن يتناول حمّامه الصباحي …أما كانت هذه اللّوحة اللعينة ستقع بعيد دخوله المقهى وجلوسه على الكرسي…!؟
همس أحد الحاضرين 🙁 يا لألطاف الأقدار..! كانت ستقع فوق رأسي –أنا الذي جئت بعد حتفه بدقائق قليلة -…الحمد لك والشكر يا ربّ على سلامتي.
رمقه جليس آخر وهو يحدّث نفسه:(أحمدك يا رب على لطف صنيعك …كنت سأمرّ على بيت أبي خليل وأصطحبه معي إلى المقهى هذا الصباح…كانت الضحيّة ستكون اثنتين …وربّما متّ قبله ,خصوصا وأنّه يبجّلني دائما ويجعلني أدخل قبله …ثمّ أنّ رأسي أصلع ولا يتحمّل الضربات القويّة.
-لو أنّ صاحب المقهى-حفظه الله- ثبّت مسمار اللوحة في الحائط جيّدا ,هل كانت هذه اللعينة ستقع فوق رأس أبي خليل هذا الصباح.
ردّ صاحب المقهى وهو ينفث من دخان أرجيلته معلّقا :(ربّما وقعت اللوحة فوق رأسي آخر الليل وأنا أغلق الباب وأغادر المحلّ آخر الليل…من أدراكم..!؟.).
تعالت الأصوات بالدعاء للمعلّم و إبعاد كلّ مكروه عنه.
حدّث تحسين النادل نفسه وهو يرقب المشهد ويستمع للحديث دون انتباه من أحد:( ما ذا لو كانت هذه اللوحة قد وقعت فوق رأسي…هل كان سيترحّم عليّ هذا الحشد من المنافقين والكذّابين والجبناء.. ويمشون في جنازتي نحو قريتي الصغيرة النائية !؟.
قال الراوي 🙁 ربّما كان سقوط اللوحة بسبب ذبابة حطّت ب(ثقلها) فوق إطار اللوحة المهترئ ,ربّما أحدث سعال أحدهم اهتزازا في المسمار الذي علّقت فوقه اللوحة بحكم أحد قوانين الفيزياء….ربّما نسمة خفيفة من الهواء أو مجرّد نظرة من أحد أصحاب العيون الثاقبة والنظرات المؤثّرة….مهما يكن من أمر فإنّ أبا خليل قد مات … وقيّد سبب الوفاة إلى مجهول ,أو صدفة حمقاء كما تقول العامّة والعجائز والشعراء.
لكنّ ما اعتدنا على تسميته بمحض الصدفة هو في حقيقة الأمر قانون في غاية الدقّة والمنطق والوضوح لمن عرف حقيقته وتتبّع الأسباب والمسبّبات.
إنّ الذي اكتشف قانون الجاذبيّة قد سأل نفسه :(لماذا لم تسقط هذه التفّاحة من الأسفل إلى الأعلى قبل أن يأكلها ويعود إلى نومه ,والفزيائي الذي اكتشف حجم الأجسام وكتلها وهي تطفو على حجم الماء ,لم يستمتع بحمّامه ,وخرج عاريا وهو يصرخ مثل طفل:(وجدتها…وجدتها) ,كما أنّ الذي اخترع الكتابة قد اختصر على نفسه شتّى ضروب الإقناع التي لا تجدي من عضلات وأسلحة وصراخ.
لم يمت العم أبو خليل إلاّ بسبب قانون طبيعي أراده له الله ,لم تسقط تفّاحة نيوتن إلاّ بسبب اكتمال نضوجها …ولم يصرخ (كوبرنيكوس) بكلمة(وجدتها) إلاّ بفضل انتباه العالم الذي ما ينفك ّ يتأمّل في الطبيعة حتّى في حالات استرخائه.
كلّما ازدادت الملاحظات, ازدادت وطرحت معها محالات التفكّر …وازدحمت الأجوبة التي لا تولّد إلاّ الأسئلة …….من قال إنّ العلم يتعارض مع التديّن ….إلاّ لأولئك الذين يشهّرون سيف الثاني قبل التفكير….ما أسهل الحركة والتعليق وما أصعب التأمّل والتفكير.