مقاربة مطبخية

يعرض التلفزيون ـ مشكورا ـ فيلما سينمائيّا أو مسرحيّة كما تنشر صحيفة رسما كاريكاتيريّا أو قصيدة أو قصّة قصيرة فهل تغنيك هذه الوظيفة الإعلاميّة عن زيارة معرض أو اقتناء كتاب!؟..

لنذهب أكثر من ذلك, اسمحوا لي أن تكون المقاربات مطبخيّة في هذا الشهر الفضيل الذي كنّا نتمنّى أن يكون مناسبة لسموّ الأذواق ونبل المشاعر وحديث الروح قبل حديث المعدة، فالفرق بين المسرح والتلفزيون كالفرق بين الأكل في المنزل والأكل في المطعم… هنا في المطعم تشاركك الأكل حواس أخرى ويشاركك المكان أشخاص آخرون في طقس جماعي احتفالي لا ينسى وتتنوّع الوجبات وطرق التذوّق ويقوم على خدمتك أناس متخصّصون وتحتجّ على نوعيّة الأطباق والخدمات ولكن ليس من حقّك أن تزور المطبخ (الكواليس) وليس من حقّك أن تفرض موسيقاك المفضّلة وليس من حقّك أن تجلس بالبيجاما وليس من حقّك أن تغادر دون دفع فاتورة الحساب (إلاّ إذا كان صاحب المطعم من أصدقائك) وليس من حقّك أن تتمدّد فوق كنبة والأهم من ذلك كلّه أنّك لا تقصد المطعم وأنت صائم أو غير راغب في تناول الطعام.

لكلّ مطعم مميّز طبّاخ مميّز (شيف) ذو نفس مميّز, يقصده الزبون الذوّاقة قبل النظر في الديكورات أو ابتسامة الجراسين أو لائحة الأسعار, كذلك المسرح إذا اعتبرناه كفاف يومنا في أمّة تهدّدها المجاعة الثقافيّة والجفاف الفكري والتصحّر الإبداعي.

كنّا فيما مضى ـ أيّام ـ كان الأبيض أبيض والأسود أسود، كنّا نضع جهاز التلفزة في المكتبة بالصالون وسط الكتب وأشرطة الأغاني واسطوانات الموسيقى ونطفئه احتراما للضيوف أمّا الآن فصار يحتلّ المطابخ وغرف الصفرة والنوم وحتّى الحمّامات ونشعله تفاديا لموجة صمت قد تخيّم على الحضور بل صرنا نصمت في حضرته فلا صوت يعلو فوق صوت التلفزة... ما هذا الضيف الثقيل الذي احتلّ بيوتنا وأذهاننا وفرض سطوته المرعبة حتّى أنّه صار مرجعيّة للعديد من المثقّفين ومادّة للكتابة فيه وإليه وعليه..!؟..

نعم, ازدهر الفن الهابط كما تزدهر صناعة التوابيت في أيّام الحرب وهاجر إليه روائيون ومسرحيون وتشكيليون وموسيقيون ,من حقّهم أن يفرّوا إلى قارب نجاة اسمه التلفزيون كي يؤمّنوا عيشهم وعيش أطفالهم ومن واجب من بقي أن يصلح العطب قبل أن يشتم المتخاذلين أو يموت كأجمل غريق في العالم… ليست دعوة لركوب الأعاصير ولا للانتحار الإبداعي ولكن ألا ترون معي أنّ سحر فينيسيا (البندقيّة) يكمن في كونها مدينة تغرق ببطء وهدوء دون أن تطلب النجدة من أحد.

في كلّ مرّة أعزم فيها على كتابة مسلسل تلفزيّ لتمويل عمل مسرحيّ جديد أصاب منذ الحلقة الأولى بالخدر والإعياء، وتزداد قناعتي بأنّ هذه الصنعة عمل عضلي يحتاج الجلد ويعرّض صاحبه لأوجاع الظهر والرأس وربّما الضمير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى