يروى عن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، أنه التقى يوما، وبالمصادفة، بأحد رفقاء السجن أيام الاعتقال في الحقبة الاستعمارية.
كان ذلك المناضل الذي يُصنّف من الدرجة الثانية فلاحا متواضع الحال، يرعى غنماته في وداعة، غير متطلب ولا لجوج، مكتفيا بشهادة الابتدائية، ولا يخطر في باله أنه سوف يلتقي يوما بصانع الاستقلال الذي كان في الأمس البعيد يشترك معه في نفس الحلم والمهجع.
سأله الزعيم إن كان يبغي شيئا على سبيل المكافأة والاعتراف بالجميل فتلكأ قليلا ثم قال له ” اللي يجي منك خير وبركة يا سيادة الرئيس”.
عرض عليه بورقيبة منصب مسؤول إداري في المنطقة التي يسكن فيها فرفع منخاره ورفض بشكل قاطع.
قال له: طيب ما رأيك أن تصبح محافظا؟
أومأ رفيق السجن برأسه “لا”.. “فلنقل وزيرا.. أظنك لن ترفض هذا العرض؟” قال بورقيبة، معقبا فرد الرجل الذي كان يهش على غنمه بشكل حاسم وصريح ” أريد تولي منصب مدير عام في إحدى مؤسسات الدولة يا سي الحبيب، إن أمكن ذلك”.
ساعتها، غيّر “سي الحبيب” من نبرة صوته قائلا: لا.. وظيفة مديرعام، يلزمها كفاءة عالية وتحصيل أكاديمي مرتفع الشأن يا رفيق الكفاح.
وبسبب هذه الطريقة في التفكير وتوزيع المناصب، صمدت تونس في أحلك ظروفها، ذلك أن الزعيم يعتبر الوظائف الوزارية أهون بكثير من تقلّد الخطط الإدارية التي يلزمها عارفون وأكفّاء.. ولا أحد غير العارفين والأكفاء.
“سي الحبيب” يدرك قبل غيره، أن المحافظين والوزراء، يمكن تغييرهم واستبدالهم بجرة قلم منه، وهو “الدكتاتور الوطني” كما يطلق عليه خصومه تحفظات شديدة، أما المديرون العامون، ومن يسيرون اقتصاد الدولة، فلا مجال للمحاباة في أمر تعيينهم
ليست المساحة المحجوزة عل هذه الصفحة مخصصة لهموم السياسة والسياسيين كما اعتاد القارئ، لكن رجلا مثل بورقيبة، أكبر بكثير من حاكم ينتظر الثناء في مماته قبل حياته.
تذكرت هذه الحادثة، والبلاد التي أعيش فيها تعاني صعوبات اقتصادية واجتماعية، لكن ليست إلى درجة أن يُعين رجل بسيط يرعى غنماته في حب ووداعة، منصب مدير عام لمؤسسة تمثل عصب البلاد الاقتصادي.
لا مزح أو مجاملة في تعيين من يديرون دواليب الدولة.. و”من يشتهي شهوة، يحطها في عشاه” كما يقول المثل التونسي، فلا لعب مع مصالح الناس ومستقبل الأجيال.
شخصيا، تعرفت إلى مسؤولين وأصحاب أمر ونهي بعدد شعر رأسي الذي بدأ بالتساقط، لكن لم أتجرأ على القول لأحدهم “أريد أن اكون مديرا عاما”.. ربما لأني كنت كسولا قليلا، وأطمح إلى منصب “وزير”.
الخبرات والتكنوكراطات، تجعلك تنعم بالماء والكهرباء والغاز في مواعيدها، ودون أن تناقش الفواتير، أما المناصب الوزارية فتضعك في الواجهة مفكرا كل صباح، في ألوان ربطة العنق والكلام الذي ينبغي أن يقال.