من (ممنوع) الصقيع إلى (حرام ) الربيع
كادت كلمة (ممنوع) أثناء حكم النظام البوليسي في تونس أن تمسي شعار المرحلة والتحيّة الصباحية التي يردّ بها كلّ ذي سلطة فعليّة أو وهميّة ,ماديّة أو معنويّة على المواطن المقهور الذي صار بدوره (يردّ التحيّة بأحسن منها ) على أفراد أسرته وحارته ..ومن في حكمه من المستضعفين ….إنها سيكلوجيا الإنسان المقهور التي تحدّث عنها المفكّر مصطفى حجازي.
هضم التونسي كل المفردات التي تعجّ بها قواميس (الممنوع) : رضخ لقوانين المرور الصّارم (مع الفقراء وحدهم طبعا) …وذلك تمثّلا للسلوك الحضاري الذي يزعمونه ,تحمّل الإهانة في الدوائر الحكوميّة وأذعن لعبدة المكاتب وأصحاب الياقات البيضاء ظنّا منه أنّ الإدارة التونسية هي الأرقى في العالم العربي (وهي كلمة حق يراد بها باطل), سكت عن عربدة السياحة الظالمة ونام كظيما حرصا منه على اقتصاد البلاد , فضّل الصلاة والدعاء في بيته سرّا لا جهرا تجنّبا للتجمّعات (المشبوهة) ..بعد أن أسدل الستائر واحترس جيّدا من جيرانه ,اضطرّ لقراءة الجرائد المحليّة المسبّحة بحمد الحاكم بكرة وعشيّا ,جاهد وراوغ في سبيل الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي في بلاده التي احتضنت القمّة العالميّة للمعلوماتيّة ..! ,أراد قول رأيه في الكتب والأفلام والمسرحيات فخاطبه الرقيب بعبارة (ممنوع) ,جازف بما تبقّى من حياة فركب الموج والأهوال والمراكب المتهالكة كي ينعم بنصف كرامة ونصف حريّة هروبا من بلد يعيش فيه كنصف مواطن ….ثمّ أجهش بالغضب وقال لسجّانه بلسان فصيح وإصبع صريحة :(ارحل).
استجاب القدر وانتصرت إرادة الحياة لكنّ فرحة التونسي ظلّت منقوصة بفعل (غفلة) منه ومن الأحداث التي (روّضها) حزب حركة النهضة ثمّ (ركبها) كمطيّة نحو مآرب أخرى غير تلك التي جاءت في بيانه الانتخابي وحملاته الدعائيّة ذات الثراء الفاحش أمام قوى وطنيّة فقيرة تدخل الحلبة الديمقراطيّة مبعثرة ومتواضعة الإمكانيات الماديّة والتنظيميّة.
مرّت (البروفة الانتخابيّة الأولى ) على خير ,من حيث النزاهة والشفافيّة والمراقبة الدوليّة ,وتشكّلت ترويكا حكوميّة ذات ضلع عريض يمثّله الاسلاميون الذين سرعان ما بدؤوا يكشّرون عن أنيابهم ويتوعّدون خصومهم ببئس المصير أمام ضعف شريكيهما (شبه العلمانيين) من حزبي المؤتمر والتكتّل .
ربّما يعتقد قياديو حركة النهضة الاسلامية في تونس من الذين عاش جلّهم في غياهب المنافي والسجون والاعتكاف أنّ المجتمع الذي يعرف بحظّه الأوفر في التعليم والثقافة والانفتاح عربيّا وإقليميّا جاهز ل (الانقضاض) عليه وفق بعض الطرق والنماذج (الاسلامويّة) الأخرى.
نسي أو تناسى الشيخ راشد الغنوشي (القومي اليساري السابق) أنّ من أجّج الثورة هم العاطلون عن العمل من أصحاب الشهادات العليا وأنّ الإسلام في تونس الحديثة – وريثة الأندلس وذات المذهب السنّي المالكي – التي أسّسها الزعيم بورقيبة ليّن ومعتدل ومتين العلاقات مع مدرسة جامع الزيتونة المعروفة بدورها الكفاحي والتنويري منذ الاستعمار الفرنسي وبعدها عن التطرّف والمغالاة.
لم يأخذ المال السياسي الخارجي الخصوصيّة التونسيّة بالاعتبار وظنّ الأمر مجرّد نزهة سياسيّة يتمّ فيها قولبة المجتمع وفق كساء مفصّليه الجدد ,لكنّ منظّمات المجتمع المدني – عريقة التجذّر رغم محاولات قمعها التاريخي – كانت له بالمرصاد وقالت للحكّام الجدد :(خيطوا بغير هذه المسلّة) ..على حدّ تعبير أهل الشام الذين يشاركونها خصوصيتها الحضاريّة رغم تميّزهم وانفرادهم بالثراء المذهبي والطائفي.
ما أن استقرّ الأمر لبعض الجماعات السلفيّة التي تقف في ظل حركة النهضة وتمثّل خزّانهم الانتخابي المقبل حتى بدأ المواطن التونسي يلمح بعض المظاهر المريبة التي لم يعتدها في شوارعه المكتظّة بالمقاهي على الطريقة الباريسيّة ,شخصيّا وحين شاهدتها لأوّل مرّة على صفحات النت خلتها من نوع (الفوتو شوب) أو (الكلاّج ) المزعوم….!:
نقاب على الطريقة الإفغانيّة ,لحى مسترسلة كتلك التي نشاهدها على نشرات الأخبار ,ملابس أظنها لم تطأ هذه البلاد منذ الفتح الاسلاميّ الرحيم الذي خلّصنا من ظلم الروم وجبروتهم …لكنها جاءت هذه المرّة لتعبس في شوارعنا البهيجة رغم الكدر ,تنهر وتحذّر شبابنا وصبايانا من الاختلاط والتحاور ,تحثّهم على (الجهاد ),تعدهم بالجنّة وحور العين وتتوعّدهم بالنار وبئس المصير.
لم تحلّ كلمة (حرام ) بدل (ممنوع) فحسب ,بل أضيفت إليها …وكأني أشاهد الرئيس المخلوع مع جلاوزته بلحى مسدلة وجلابيب طويلة …مدجّجين بنظرات الحقد والتكفير الجديدة بدل نظرات الانتقام والتحقير القديمة.
ماذا جرى أيها السادة…! ,هل (هربنا من تحت الدلف إلى تحت المزراب)…هل هذه بلادنا التي أردناها …هل هذا ما أنبتته دماء شهدائنا …كنّا ننتظر الزهور ,فلم نر إلاّ الأشواك..؟!.
*كلمة في الزحام : مرّة أخرى أختم بمثل شاميّ لتشابه المصائر وانصهار العواطف :(جبناك يا عبد المعين ..) …ومرّة أخرى استخدم مصطلحا مسرحيّا بحكم المهنة وضرورة تشخيص الحالة :(إنّنا ننتظر العرض الأوّل بعد البروفة الأولى و(الجينرال)) …ليس جينرالا عسكريّا طبعا.